أَنَمُّ مِنْ زُجَاجةٍ عَلَى
ما فيلها
لأنّ الزجاج جَوْهَرَ لَا ينكتم فيه شيء،
لما في جرمه من الضياء، وقد تعاطى البُلَغَاء وصف هذا الجوهر، فعبَّرُوا عن مدحه وذمه.فأمّا ذمُّه فإنَّ النَّظَّام أخْرَجه في كلمتين بأواجز لفظ وأتمّ معنَى، فَقَالَ: يُسْرِع إليه الكسر، ولَا يقبل الجَبْر.
وأمّا مَدْحه فإنَّ سَهْل بن هارون شهد مجلساً من مجالس الملوك قد حضَرَ فيه شَدَّاد الحارثي، فأخذ يُعَدِّد خصال طباع الذهب، وقد قَالَ شداد: الذهب أبقى الجواهر على الدَّفْن، وأصبرها على الماء، وأقلها نقصاناً على النار، وهو أوْزَنُ من كل ذي وَزْنِ، إذا كان في مقدار شَخصِهِ، وجميع جواهر الأَرض والفِلِّزِّ كله إذا وُضِع على ظهر الزئبق في إنائه طَفَا، ولو كان ذا وزن ثقيل وحجم عظيم، ولو وَضَعْتَ على الزئبق قيراطا من الذهب لرسَبَ حتى يضرب قعر الإناء، ولَا يجوز ولَا يصلح أن تُشَدَّ الأسنان المقتلعة بغيره، وأن يوضع في مكان الأَنوف المُصطَلمة سِوَاه، ومِيلُه أجودُ الأميال، والهندُ تمرُّهُ في العين بلَا كحل ولَا ذَرُور لصلَاح طبعه ولموافقة جوهره لجوهر الناظرين، ولهما حسن، ومنه الزرياب والصفائح التي تكون في سقوف الملوك، وعليه مَدَارُ الطَبائع، وثمن لكل شيء، ثم هو فوق الفضة مع حسن الفضة وكرمها، وحَظِّها في الصدور، وأنها ثمن لكل مبيع بأضعاف وأضعاف أضعاف، وله المرجوع وقلة النقصان، والأَرض التي تنبته ويسلم عليها تُحِيل الفضة إلى جوهرها في السنين اليسيرة، وتقلب الحديد إلى طبعها في الأيام القليلة، والطبيخ الذي يكون في قُدِورِه أغْذَى وأمْرَى، وأصَحُّ في الجوف وأطيب، وسئل علي بن أبى طالب رضي الله عنه عن الكبريت الأَحمر، فَقَالَ: هو الذهب، وقَالَ النبي صلّى الله عليه وسلم "لو أن لي طِلَاعَ الأَرض ذهباً" فأجراه في ضرب الأمثال كل مُجْرَى.
فحسده سهل بن هارون على ما حضره من الخطابة والبلَاغة، فَقَالَ يعترض عليه يعيب الذهب ويفضِّلُ عليه الزجاج: الذهبُ مخلوق، والزجاج مصنوع وإن فضل الذهَب بالصَّلَابة وفضل الزجاج بالصفاء، ثم الزجاج مع ذلك أبقَى على الدفن والغرق، والزجاج مجلو نُورِى، والذهب مناع ساتر، والشراب في الزجاج أحسنُ منه في كل معدن، ولَا يفقد معه وجْه النديم، ولَا يُثْقل اليد، ولَا يرتفع في السَّوْم، واسم الذهب يُتَطَيرُ منه ولَا يتفاءل به، وإن سقط عليك قتَلَكَ، وإن سَقَطْتَ عليهِ عَقَرَكَ ومن لؤمه سرعَته إلى بيوت اللئام وملكهم، وإبطاؤه عن بيوت الكرام وملكهم، وهو فاتن وقاتل لمن صانه، وهو أيضاً من مصايد إبليس، ولذلك قَالَوا: أهْلَكَ الرجَالَ الأَحمران، وأهلك النساء الأَحامرة، وقُدُور الزجاج أطْيب من قدور الذهب، وهي لَا تصدأ، ولَا يتداخل تحت حيطانها ريح الغمر
وأوساخ الوضَر، وإن اتسخَتْ فالماء وحده لها جلَاء، ومتى غسلت بالماء عادت جُدَداً، ولها مرجوع حسن، وهو أشبه شيء بالماء وصنعته عجيبة، وصناعته أعجب وكان سليمان بن داوود على نبينا وعليهما الصلَاة والسلام إذا عبَّ في الإَناء كَلَحَتْ في وجهه مَرَدَة الجن والشياطين، فعلَّمه الله صنعة القوارير، فحسم بها عن نفسه تلك الجراءة، وذلك التهجين، ومَنْ، كرعَ فيه شارب ماء فكأنه يكرع في إناء من ماء وهواء وضياء، ومرآته المركبة في الحائط أضوأ من مرآة الفولَاذ، والصُّور فيها أبين، وقد تقدح النار من قنينة الزجاج إذا كان فيها ماء فحاذوا بها عين الشمس؛ لأَن طبع الماء والزجاج والهواء والشمس من عنصر واحد، وليس في كل ما يدور عليه الفلك جوهر أقبل لكل صبغ وأجدر أن لَا يفارقه حتى كان ذلك الصبغ جوهرية فيه منه، ومتى سقط عليه ضياء أنقذه إلى الجانب الآخر من الهواء، وأعاره لونه، وإن كان الجامُ ذا ألوانٍ أراك أرضَ البيت أحسن من وَشْىَ صَنْعاء، ومن دِيباج تُستَر (فارسية)، ولم يتخذ الناس آنية لشرب الشراب أجمع لما يريدون من الشراب منه، قَالَ الله تعالى: "قيل لها ادْخُلِي الصرح، فلما رأته حَسِبَتْه لجة، وكشفت عن ساقيها، قَالَ: إنه صَرْح مُمَرَّدٌ من قوارير". وقَالَ تعالى: "ويُطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة". فاشتقّ للفضة اسماً، وقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم للحادي وقد عنف في سياق ظُعُنه: يا أنيس ارْفُق بالقوارير، فاشتقَّ للنساء اسماً من أسمائها، ويقولون: ما فلان إلَا قارورة، على أنّه أقطع من السيف وأحدُّ من المُوسى، وإذا وقع شعاع المصباحُ على جوهر الزجاجة صار الزجاج والمصباح مصباحاً واحداً، وردَّ الضياء كل منهما على صاحبه، واعتبروا ذلك بالشعاع الذي يسقط في وَجْه المرآة على وجه الماء، وعلى الزجاج، ثم انظروا كيف يتضاعف نوره، وإنْ كان سقوطه على عين إنسان أعْشَار وربما أعماه، قَالَ الله تعالى (- الله نُورُ السموات والأَرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح - الآية) فللزيت في الزجاجة نور على نور وضوء متضاعف.
فلم يبق في ذلك المجلس أحد إلَا تحير فيه، وشق عليه ما نال من نفسه بهذه المُعَارضة، وأيقنوا أنه ليس دون اللّسان حاجز، وأنه مخْرَاق يذهب في كلِّ فنّ، يخيل مرة، ويكذب مرة، ويهجو مرة، ويَهْذي مرة، وإذا صحَّ تهذيب العقل صح تقويمُ اللسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
عزيزي الزائر:
أهلاً وسهلاً بك اكتب ملاحظاتك أو سؤالك أو راسلنا على صفحة النحو والصرف:
https://www.facebook.com/arabicgrammar1255/