شرح معلقة امرئ القيس قفا نبك -1

 معلقة امرئ القيس

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبِ وَمَنْزِلِ ** بِسُقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ  

فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ** لمِاَ نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ 

تَرَى بَعَر الأرْآم فِي عَرَصَاتِهَا ** وَقِيعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ 

كأَنِّي غَدَاةَ الْبَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ** لَدَى سَمُرَاتِ الْحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَل 

وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهُمْ ** يَقُولُونَ: لا تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَمَّلِ 

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ ** فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟ 

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ** وَجاَرَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ 

إذا قَامَتَا تَضَوّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا ** نَسِمَ الصَّبَا جَاَءتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ 

فَفَاضَتْ دُمُوعُ العَيْنِ مِنِّى صَبَابَةً ** عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مْحَمَلِي 

أَلاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنّ صَالِحٍ ** وَلاَسِيمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ 

فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بِلَحْمِهَا ** وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ 

وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَة ** فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ! إِنَّكَ مُرْجِلِي 

تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعاً **عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ القَيْسِ فَانْزِلِ 

فَقُلْتُ لَهَا سِيرِي وَأَرْخِى زِمَامَهُ ** وَلاَ تُبْعِدِينِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ 

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ ** فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ 

إذا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ** بِشِقٍّ وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ 

وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ** عَلَىَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلّلِ 

أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذَا التَّدَلُّلِ ** وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِى فَأَجمِلِي 

وَإنْ تَكُ قَدْ سَاَءتْكِ مِنِّى خَلِيقَةٌ ** فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ 

أَغَرَّكِ مِنِّي أن حُبَّكِ قَاتِلِي ** وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يفعلِ 

وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْرِبِي ** بِسَهْمَيْكِ فيِ أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ 

وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا ** تَمَتّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ 

تَجَاوَزْتُ أَحْرَاساً إليها وَمَعْشَراً ** عَلَىَّ حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي 

إذا مَا الثُّرَيَّا فيِ السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ ** تَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصّلِ  

فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابِهَا ** لَدَى السِّتْرِ إِلاَّ لِبْسَةَ المتَفَضِّلِ 

فَقَالَتْ يَمِينُ اللهِ مَالَكَ حِيَلةٌ ** وَمَا أن أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِي 

فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى ** بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ  

هَصَرْتُ بِفَوْدَيْ رَأْسِهَا فتَمايَلَتْ ** عَلَىَّ هَضِمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَلِ  

مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ** تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ 

تَصُدُّ وَتُبْدِى عَنْ أَسِيلٍ وَتَتَّقِى ** بِنَاظِرَةٍ منْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ  

وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ** إذا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطّلِ 

وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ ** أَثِيثٍ كَقِنْوِ النّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ 

غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزَرَاتٌ إلى العُلا ** تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَل 

وَكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجْدِيلِ مُخَصَّرِ ** وَسَاقٍ كَأَنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ 

وَيُضحِي فَتِيتُ المِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا ** نَؤُومُ الضُّحى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ  

وَتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرِ شَثْنٍ كَأَنَّهُ ** أَسَارِيعُ ظَبْيٍ أو مَسَوِيكُ إِسْحِلِ 

تَضِيُّ الظَّلاَمَ بِالْعِشَاَء كَأَنَّهَا ** مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ 

الجزء الأول من 1- 40 

1- قِفا نبك من ذِكرى حبيبٍ ومنزل *** بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخول فَحَوْمَلِ

قيل: خاطب صاحبيه، وقيل: بل خاطب واحدًا وأخرج الكلام مخرج الخطاب مع الاثنين؛ لأن العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع، فمن ذلك قول الشاعر سويد بن كراع العكلي:

فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر … وإن ترعياني أحم عرضًا ممنّعاً

خاطب الواحد خطاب الاثنين، وإنما فعلت العرب ذلك لأن الرجل يكون أدنى أعوانه اثنين: راعي إبله وراعي غنمه، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرون ألسنتهم عليه، ويجوز أن يكون المراد به: قف قف، فإلحاق الألف أمارة دالة على أن المراد تكرير اللفظ كما قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: "قَالَ رَبِّ ارْجِعُون" المراد منه: أرجعني أرجعني أرجعني، جعلت الواو علمًا مشعرًا بأن المعنى تكرير اللفظ مرارًا، وقيل: أراد قفن على جهة التأكيد فقلب النون ألفًا في حال الوصل؛ لأن هذه النون تقلب ألفًا في حال الوقف فحمل الوصف على الوقف، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله تعالى: "لَنَسْفَعاً" قلت: لنسفعاً؟ ومنه قول الأعشى:

وصلِّ على حين العشيات والضحى *** ولا تحمد المثرين والله فاحمدا

أراد فاحمدن فقلب نون التأكيد ألفًا، يقال بكى يبكي بكاء وبُكىً، ممدودًا ومقصوراً، أنشد ابن الأنباري لحسان بن ثابت شاهدًا له:

بكت عيني وحق لها بكاها *** وما يغني البكاء ولا العويل

فجمع بين اللغتين؛ السقط: منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه، والسقط أيضًا ما يتطاير من النار، والسقط أيضاً المولود لغير تمام، وفيه ثلاث لغات: سَقط وسِقط وسُقط في هذه المعاني الثلاثة اللوى: رمل يعوج ويلتوي. الدخول وحومل: موضعان.

يقول: قفا وأسعداني وأعيناني، أو قف وأسعدني على البكاء عند تذكري حبيبًا فارقته ومنزلاً خرجت منه، وذلك المنزل أو ذلك الحبيب أو ذلك البكاء بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين.

2- فتُوضِحَ فالْمِقراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها *** لما نَسَجَتْها من جنوبٍ وشَمْأَلِ

توضح والمقراة موضعان وسقط اللوي بين هذه المواضع الأربعة، قوله: لم يعف رسمه، أي لم يَنْمَحِ أثرها. الرسم ما لصق بالأرض من آثار الدار مثل البعر والرماد وغيرهما. والجمع أرسم ورسوم، قوله: وشمأل فيها ست لغات: شمال وشمأل وشأمل وشمول وشَمْل وشَمَل. نسج الريحين: اختلافهما عليها وستر إحداهما إياها بالتراب وكشف الأخرى التراب عنها.

يقول: لم ينمحِ ولم يذهب أثرها؛ لأنه إذا غطته إحدى الريحين بالتراب كشف الأخرى التراب عنها، وقيل: بل معناه لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين بل كان له أسباب منها هذا السبب ومر السنين وترادف الأمطار وغيرها، وقيل: بل معناه لم يعف رسم حبها من قلبي وإن نسجتها الريحان، والمعنيان الأولان أظهر من الثالث وقد ذكرها كلها أبو بكر ابن الأنباري.

3- ترى بَعَرَ الأَرْآمِ في عَرَصاتِها *** وقيعانها كأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ

الأرآم: الظباء البيض الخالصة البياض، واحدها رئم، بالكسر، وهي تسكن الرمل. عرصات في "المصباح": عرصة الدار ساحتها، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء والجمع عراص مثل كلب وكلاب، وعرصات مثل سجدة وسجدات وعن الثعالبي كل بقعة ليس فيها بناء فهي عرصة، وفي "التهذيب": وسميت ساحة الدار عرصة؛ لأن الصبيان يعرصون فيها أي: يلعبون ويمرحون. قيعان جمع قاع وهو المستوي من الأرض، وقيعة مثل القاع، وبعضهم يقول: هو جمع، وقاعة الدار ساحتها. الفلفل قال في القاموس: كهدهد وزبرج، حب هندي، ونسب الصاغاني الكسر للعامة، وفي المصباح: الفلفل بضم الفاءين من الأبزار، قالوا: لا يجوز فيه الكسر.

يقول: انظر بعينيك تر هذه الديار التي كانت مأهولة مأنوسة بهم خصبة الأرض، كيف غادرها أهلها وأقفرت من بعدهم أرضها وسكنت رملها الظباء، ونثرت في ساحاتها بعرها حتى تراه كأنه حب الفلفل في مستوى رحباتها. "هذا الشرح ليس للزَّوزَني".

4- كأني غَداةَ البَينِ يَوْمَ تَحَمَّلوا *** لدى سَمُراتِ الحيّ ناقِفُ حَنظلِ

غداة في "المصباح": والغداة الضحوة، وهي مؤنثة قال ابن الأنباري: ولم يسمع تذكيرها، ولو حملها حامل على معنى أول النهار جاز له التذكير، والجمع غدوات. البين: الفرقة وهو المراد هنا، وفي "القاموس": البين يكون فرقة ووصلًا، قال الشارح: بان يبين بينًا وبينونة، وهو من الأضداد. اليوم: معروف، مقداره، من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يراد باليوم الوقت مطلقًا، ومنه الحديث: "تلك أيام الهرج"، أي: وقته، ولا يختص بالنهار دون الليل. تحملوا واحتملوا بمعنى: أي ارتحلوا. لدى بمعنى عند. سمرات جمع سمرة، بضم الميم: من شجر الطلح. الحي: القبيلة من الأعراب، والجمع أحياء. نقف الحنظل: شقة عن الهبيد، وهو الحب، كالإنقاف والانتقاف، وهو، أي الحنظل، نقيف ومنقوف، وناقفهِ الذي يشقه.

يقول: كأني عند سمرات الحي يوم رحيلهم ناقف حنظل، يريد وقف بعد رحيلهم في حيرة وقفة جاني الحنظلة ينقفها بظفره ليستخرج منها حبها، "هذا الشرح ليس للزَّوزَني".

5- وُقوفاً بها صَحْبِي عَلَيّ مَطِيَّهُمْ *** يقولونَ لا تهلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ

نصب وقوفاً على الحال، يريد قفا نبك في حال وقف أصحابي مطيهم علي، والوقوف جمع واقف بمنزلة الشهود والركوع في جمع شاهد وراكع، الصحب: جمع صاحب، ويجمع الصاحب على الأصحاب والصحب والصحاب والصحابة والصحبة والصحبان، ثم يجمع الأصحاب على الأصاحيب أيضًا ثم يخفف فيقال الأصاحب. المطي: المراكب، واحدتها مطية، وتجمع المطية على المطايا والمطي والمطيات سميت مطية؛ لأنه يركب مطاها أي ظهرها، وقيل: بل هي مشتقة من المطو وهو المد في السير، يقال: مطاه يمطوه، فسميت به لأنها تمد في السير: نصب أسىً؛ لأنه مفعول له.

يقول: قد وقفوا عليّ أي: لأجلي أو على رأسي وأنا قاعد عند رواحلهم ومراكبهم، يقولون لي: لا تهلك من فرط الحزن وشدة الجزع وتجمل بالصبر، وتلخيص المعنى: أنهم وقفوا عليه رواحلهم يأمرونه بالصبر وينهونه عن الجزع.

6- وإنَّ شِفائي عَبْرَةٌ مُهَراقَةٌ *** فهلْ عندَ رَسمٍ دارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

المهراق والمراق: المصبوب، وقد أرقت الماء وهرقته وأهرقته أي صببته: المعوّل: المبكى، وقد أعول الرجل وعوّل إذا بكى رافعًا صوته به، والمعول: المعتمد والمتكل عليه أيضًا. العبرة: الدمع، وجمعها عبرات، وحكى "ثعلب" في جمعها العِبَر مثل بدرة وبِدَر.

يقول: وإن بَرْئِي من دائي ومما أصابني وتخلصي مما دهمني يكون بدمع أصبّه ثم قال: وهل من معتمد ومفزع عند رسم قد درس، أو هل موضع بكاء عند رسم دارس؟ وهذا استفهام يتضمن معنى الإنكار، والمعنى عند التحقيق: ولا طائل في البكاء في هذا الموضع؛ لأنه لا يرد حبيبًا، ولا يجدي على صاحبه بخير، أو لا أحد يعول عليه ويفزع إليه في مثل هذا الموضع، وتلخيص المعنى: وإن مخلصي مما بي بكائي، ثم قال: ولا ينفع البكاء عند رسم دارس، أو ولا معتمد عند رسم دارس.

7- كدأبكَ من أمِّ الْحُوَيْرِثِ قبْلها *** وجَارَتِها أم الرَّبابِ بِمَأسَلِ

الدأْبُ والدأَبُ، بتسكين الهمزة وفتحها: العادة، وأصلها متابعة العمل والجد في السعي، دأب يدأب دأباً ودئاباً ودءوباً، وأدأبت السير: تابعته. مأسَل، بفتح السين: جبل بعينه، ومأسِل، بكسر السين: ماء بعينه والرواية فتح السين.

يقول: عادتك في حب هذه كعادتك من تينك، أي: قلة حظك من وصال هذه ومعاناتك الوجد بها كقلة حظك من وصالهما، ومعاناتك الوجد بهما، قوله: قبلها أي: قبل هذه التي شغفت بها الآن.   8- إذا قامَتا تَضَوّعَ الْمِسْكُ مِنْهُمَا *** نسيمَ الصَّبا جاءت برَيّا القَرَنْفُلِ

ضاع الطيب وتضوّع إذا انتشرت رائحته. الريّا: الرائحة الطيبة.

يقول: إذا قامت أم الحويرث وأم الرباب فاحت ريح المسك منهما كنسيم الصبا إذا جاءت بعرف القرنفل ونشره. شبه طيب رياهما بطيب نسيم هبّ على قرنفل وأتى بريّاه، ثم لما وصفهما بالجمال وطيب النشر وصف حاله بعد بعدهما.

9- ففاضَتْ دُموعُ العَينِ مِنّي صَبَابَةً *** عَلَى النَّحرِ حتّى بلّ دمعيَ مِحْمَلي

الصبابة: رقة الشوق، وقد صبّ الرجل يصب صبابة فهو صَبٌّ، والأصل صبب فسكنت العين وأدغمت في اللام. المحمل: حمالة السيف، والجمع المحامل، والحمائل جمع الحمالة.

يقول: فسالت دموع عيني من فرط وجدي بهما وشدة حنيني إليهما حتى بلّ دمعي حمالة سيفي. ونصب صبابة على أنه مفعول له كقولك: زرتك طمعاً في برِّك، قال الله تعالى: "مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ". أي: لحذر الموت، وكذلك زرتك للطمع في برِّك، وفاضت دموع العين مني للصبابة.

10- ألا رُبّ يَومٍ لكَ مِنْهُنّ صَالِحٍ *** ولا سيَّمَا يومٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ

في ربّ لغات: وهي رُبَّ ورَبَّ ورُبْ ورُبَ ثم تلحق التاء فتقول ربّة وربّت، وربّ موضوع في كلام العرب للتقليل وكم موضوع للتكثير، ثم ربما حملت رُبّ على كم في المعنى فيراد بها التكثير، وربما حملت كم على رب في المعنى فيراد بها التقليل، ويروى: ألا رب يوم كان منهن صالح، والسيّ: المثل: يقال هما سيان أي مثلان. ويجوز في يوم الرفع والجر، فمن رفع جعل ما موصولة بمعنى الذي، والتقدير: ولا سي اليوم الذي هو بدارة جلجل، ومن خفض جعل ما زائدة، وخفضه بإضافة سيّ إليه فكأنه قال: ولا سي يوم أي ولا مثل يوم. دارة جلجل غدير بعينه. يقول: رب يوم فزت فيه بوصال النساء وظفرت بعيش صالح ناعم منهن ولا يوم من تلك الأيام مثل يوم دارة جلجل، يريد أن ذلك اليوم كان أحسن الأيام وأتمها، فأفادت لا سيما التفضيل والتخصيص.

11- وَيَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطيّتِي *** فيا عجباً من كورِها الْمُتَحَمَّلِ

العذراء من النساء: البكر التي لم تفتض، والجمع العذارى. الكور: الرحل بأداته، والجمع الأكوار والكيران؛ ويروى: من رحلها المتحمل، المتحمل: الحمل. فتح يوم مع كونه معطوفًا على مجرور أو مرفوع وهو يومٌ أو يومٍ بدارة جلجل؛ لأنه بناه على الفتح لما أضافه إلى مبني وهو الفعل الماضي، وذلك قوله: عقرت، وقد يبنى المعرب إذا أضيف إلى مبني، ومنه قوله تعالى: "إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ"؛ فبنى مثل على الفتح مع كونه نعتًا لمرفوع لما أضافه إلى ما وكانت مبنية، ومنه قراءة من قرأ: "وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذ" بنى يوم على الفتح لما أضافه إلى إذ وهي مبنية وإن كان مضافًا إليه؛ ومثله قول النابغة الذبياني:

على حينَ عاتبت المشيب على الصبا *** فقلت ألما تصح والشيب وازع

بنى حين على الفتح لما أضافه إلى الفعل الماضي؛ فضّلَ يوم دارة جلجل ويوم عقر مطيته للأبكار على سائر الأيام الصالحة التي فاز بها من حبائبه، ثم تعجب من حملهن رحل مطيته وأداته بعد عقرها واقتسامهن متاعه بعد ذلك. قوله: فيا عجبًا، الألف فيه بدل من ياء الإضافة، وكان الأصل فيا عجبي، وياء الإضافة يجوز قلبها ألفًا في النداء نحو يا غلامًا في يا غلامي، فإن قيل: كيف نادى العجب وليس مما يعقل؟ قيل في جوابه: إن المنادى محذوف، والتقدير: يا هؤلاء أو يا قوم اشهدوا عجبي من كورها المتحمل فتعجبوا منه، فإنه قد جاوز المدى والغاية القصوى؛ وقيل: بل نادى العجب اتساعًا ومجازًا، فكأنه قال: يا عجبي تعال واحضر فإن هذا أو إن إتيانك وحضورك.

12- فظلَّ العذارَى يرْتَمينَ بلحمها *** وشحمٍ كَهُدَّابِ الدَّمَقس الْمُفَتَّلِ

يقال: ظل زيد قائمًا إذا أتى عليه النهار وهو قائم، وبات زيد نائمًا إذا أتى عليه الليل وهو نائم، وطفق زيد يقرأ القرآن إذا أخذ فيه ليلًا ونهارًا. الْهُدَّاب والهدب: اسمان لما استرسل من الشيء نحو ما استرسل من الأشفار من الشعر ومن أطراف الأثواب، الواحدة هدابة وهدبة، ويجمع الهدب على الأهدب. الدمقس والمدقس: الإبريسم، وقيل: هو الأبيض منه خاصة.

يقول: فجعلن يلقي بعضهن إلى بعض شواء المطية استطابة أو توسعًا فيه طول نهارهن؛ وشبه شحمها بالإبريسم الذي أجيد فتله وبولغ فيه، وقيل هو القز. الشحم: السمن.

13- ويومَ دخلتُ الْخِدرَ خدرَ عُنَيزَةٍ *** فقالتْ لكَ الوَيلاتُ إنَّك مُرْجِلي

الخدر: الهودج، والجمع الخدور، ويستعار للستر والحجلة وغيرهما، ومنه قولهم: خدرت الجارية، وجارية مخدَّرة أي: مقصورة في خدرها لا تبرز منه، ومنه قولهم: خدر الأسد يخدر خدراً وأخدر إخداراً إذا لزم عرينه؛ ومنه قول ليلى الأخيلية: 

فتى كان أحيا من فتاة حيية *** وأشجع من ليث بخفان خادر

وقول الشاعر:

كالأسد الورد غدا من مخدره 

والمراد بالخدر في البيت الهودج. عنيزة: اسم عشيقته وهي ابنة عمه، وقيل: هو لقب لها واسمها فاطمة، وقيل: بل اسمها عنيزة وفاطمة غيرها. قوله: فقالت لك الويلات، أكثر الناس على أن هذا دعاء منها عليه، والويلات: جمع ويلة، والويلة والويل: شدة العذاب، وزعم بعضهم أنه دعاء منها له في معرض الدعاء عليه، والعرب تفعل ذلك صرفًا لعين الكمال عن المدعو عليه. ومنه قولهم: قاتله الله ما أفصحه! ومنه قول جميل:

رمى الله في عيني بثنية بالقذى *** وفي الغر من أنيابها بالقوادح

ويقال: رَجِلَ الرجُل يرجل رَجَلاً فهو راجل، وأرجلته أنا صيرته راجلاً. خدر عنيزة بدل من الخدر الأول، والمعنى: يوم دخلت خدر عنيزة، وهذا مثل قوله تعالى: "لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ" ومنه قول الشاعر:

يا تيم تيم عدي لا أبا لكمو *** لا يلفينكمو في سوأة عمر

وصرف عنيزة لضرورة الشعر وهي لا تنصرف في غير الشعر للتأنيث والتعريف.

يقول: ويوم دخلت هودج عنيزة فدعت عليّ أو دعت لي في معرض الدعاء عليّ، وقالت: إنك تصيرني راجلة لعقرك ظهر بعيري، يريد أن هذا اليوم كان من محاسن الأيام الصالحة التي نلتها منهن أيضاً.

14- تقولُ وقد مال الغَبيطُ بنا معاً *** عَقَرْتَ بَعِيري يا امرَأَ القَيس فانزِلِ

الغبيط: ضرب من الرِّحال، وقيل: بل ضرب من الهوادج، الباء في قوله: بنا للتعدية، وقد أمالنا الغبيط جميعًا. عقرت بعيري أي: أدبرت ظهره، من قولهم: سرج مُعْقِر وَعُقَر وعُقَرة يعقر الظهر. ومنه قولهم: كلب عقور، ولا يقال في ذي الروح إلا عقور.

يقول: كانت هذه المرأة تقول لي في حال إمالة الهودج أو الرحل إيانا: قد أدبرت ظهر بعيري فانزل عن البعير.

15- فَقُلتُ لَهَا سيري وأرْخي زِمَامَه ** ولا تُبعديني من جنَاكِ الْمُعَلَّلِ

جعل العشيقة بمنزلة الشجرة، وجعل ما نال من عناقها وتقبيلها وشمها بمنزلة الثمرة لتناسب الكلام. المعلل: المكرر، من قولهم: علّه يعِلَه ويعلّه إذا كرر سقيه وعلله للتكثير والتكرير. المعلل: الملهي، من قولك: عللت الصبي بفاكهة أي ألهيته بها، وقد روي في البيت بكسر اللام وفتحها، والمعنى على ما ذكرنا.

يقول: فقلت للعشيقة بعد أمرها إياي بالنزول سيري وأرخي زمام البعير ولا تبعديني مما أنال من عناقك وشمك وتقبيلك الذي يلهيني أو الذي أكرره، ويقال لمن على الدابة سار يسير كما قال للماشي كذلك؛ قال: سيري وهي راكبة. الجنى: اسم لما يجتني من الشجر، والجني المصدر، يقال: جنيت الثمرة واجتنيتها.

16- فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ وَمُرْضعٍ *** فألْهَيتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ

خفض فمثلك بإضمار رُبّ، أراد فرب امرأة حبلى. الطروق: الإتيان ليلًا، والفعل طرق يطرق. المرضع: التي لها ولد رضيع، إذا بنيت على الفعل أنثت فقيل: أرضعت فهي مرضعة، وإذا حملوها على أنها بمعنى ذات إرضاع أو ذات رضيع لم تلحقها تاء التأنيث، ومثلها حائض وطالق وحامل، لا فصل بين هذه الأسماء فيما ذكرنا، وإذا حملت على أنها من المنسوبات لم تلحقها علامة التأنيث، وإذا حملت على الفعل لحقتها علامة التأنيث، ومعنى المنسوب في هذا الباب أن يكون الاسم بمعنى ذي كذا أو ذات كذا، والاسم إذا كان من هذا القبيل عَرَّته العرب من علامة التأنيث كما قالوا: امرأة لابن وتامر أي: ذات لبن وذات تمر، ورجل لابن تامر أي: ذو لبن وذو تمر، ومنه قوله تعالى: "السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه" نص الخليل على أن المعنى: السماء ذات انفطار به، لذلك تجرد منفطر عن علامة التأنيث. وقوله تعالى: "لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ" أي: لا ذات فرض، وتقول العرب: جمل ضامر وناقة ضامر، وجمل شائل1 وناقة شائل، ومنه قول الاعشى:

عهدي بها في الحي قد سربلت *** بيضاء مثل المهرة الضامر

أي: ذات الضمور، وقول الآخر:

وغررتنِي وزعمتِ أنَّكِ *** لابن في الصيف تامر

أي: ذات لبن وذات تمر؛ وقول الآخر:

ورابَعَتني تحت ليل ضارب *** بساعد فَعْمٍ وكفٍّ خاضب

أي: ذات خضاب، وقال أيضاً:

يا ليت أم العمر كانت صاحبي *** مكان من أمسى على الركائب  

أي ذات صحبتي، وأنشد النحويون:

وقد تخذت رجلي لدى جنب غرزها *** نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق

أي ذات الطريق، والمعول في هذا الباب على السماع إذ هو غير منقاد للقياس. لهيت عن الشيء ألهى عنه لهيًا إذا شغلت عنه وسلوت، وألهيته إلهاء إذا شغلته. التميمة: العوذة، والجمع التمائم. يقال: أحول الصبي إذا تم له حول فهو محول؛ ويروى: عن ذي تمائم مُغْيِلِ؛ يقال: غالت المرأة ولدها تغيل غيلًا وأغالت تغيل إغيالاً إذا أرضعته وهي حبلى. ويروى: مرضع بالعطف على حبلى. ويروى: ومرضعًا على تقدير طرقتها. ومرضعًا تكون معطوفة على ضمير المفعول.

يقول: فربَّ امرأة حبلى قد أتيتها ليلًا وربّ امرأة ذات رضيع أتيتها ليلًا فشغلتها عن ولدها الذي علقت على العوذة وقد أتى عليه حول كامل، أو قد حبلت أمه بغيره فهي ترضعه على حبلها، وإنما خص الحبلى والمرضع؛ لأنهما أزهد النساء في الرجال وأقلهن شغفًا بهم وحرصًا عليهم، فقال: خدعت مثلهما مع اشتغالهما بأنفسهما فكيف تتخلصين مني؟ قوله: فمثلك، يريد به فرُبَّ امرأة مثل عنيزة في ميله إليها وحبه لها؛ لأن عنيزة في هذا الوقت كانت عذراء غير حبلى ولا مرضع.

17- إذَا ما بكى من خلفها انْصَرَفَتْ لهُ *** بشِقٍّ وتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ

شقّ الشيء: نصفه. يقول: إذا ما بكى الصبي من خلف المرضع انصرفت إليه بنصفها الأعلى فأرضعته وأرضته وتحتي نصفها الأسفل لم تحوله عني، وصف غاية ميلها إليه وكلفها به حيث لم يشغلها عن مرامه ما يشغل الأمهات عن كل شيء.

18- وَيومًا عَلَى ظَهرِ الكَثيبِ تَعَذّرَتْ *** عَلَيّ وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ

الكثيب: رمل كثير، والجمع أكثبة وكُثُب وكثبان. التعذر: التشدد والالتواء والإيلاء والائتلاء والتألّي: الحلف، يقال: آلى وائتلى وتأَلّى إذا حلف، واسم اليمين الأَلِيَّة والأَلوة والأُلوة معًا، والْحَلْف المصدر. والْحَلِف بكسر اللام. الاسم. الحلفة: المرة. التحلل في اليمين: الاستثناء. نصب حلفة لأنها حلت محل الإيلاء كأنه قال: وآلت إيلاء والفعل يعمل فيما وافق مصدره في المعنى كعمله في مصدر نحو قولهم: إني لأشنؤه بغضاً وإني لأبغضه كراهية. يقول: وقد تشددت العشيقة والْتَوت، وساءت عشرتها يومًا على ظهر الكثيب المعروف، وحلفت حلفًا لم تستثن فيه أنها تصارمني وتهاجرني، هذا، ويحتمل أن يكون صفة حال اتفقت له مع عنيزة، ويحتمل أنها اتفقت مع المرضع التي وصفها.

19- أفاطِمَ مهلاً بعضَ هذا التَّدَلّلِ *** وَإن كنتِ قد أزمعتِ صَرْمي فأجملي

مهلاً: أي رفقاً، الإدلال والتدليل: أي يثق الإنسان بحب غيره إياه فيؤذيه على حسب ثقته به، والاسم الدّالة والدال والدلال. أزمعت الأمر وأزمعت عليه: وطّنت نفسي عليه.

يقول: يا فاطمة دعي بعض دلالك وإن كنت وطّنت نفسك على فراقي فأجملي في الهجران. نصب بعض؛ لأن مهلًا ينوب مناب دع. الصرم: المصدر، يقال: صرمت الرجل أصرمه صرمًا إذا قطعت كلامه، والصرم الاسم، فاطمة: اسم المرضع أو عنيزة، وعنيزة لقب لها فيما قيل.

20- أغَرّكِ مني أنّ حبّكِ قاتِلي … وَأنّكِ مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ

يقول: قد غرك مني كون حبك قاتلي وكون قلبي منقادًا لك بحيث مهما أمرته بشيء فعله. وألف الاستفهام دخلت على هذا القول للتقرير لا للاستفهام والاستخبار، ومنه قول جرير:

ألستم خيرَ من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطونَ راحِ

يريد أنهم خير هؤلاء، وقيل: بل معناه قد غرك مني أنك علمت أن حبك مُذلّلي، والقتل التذليل، وأنك تملكين فؤادك فمهما أمرت قلبك بشيء أسرع مرادك فتحسبين أني أملك عنان قلبي كما ملكت عنان قلبك حتى يسهل علي فراقك كما سهل عليك فراقي، ومن الناس من حمله على مقتضى الظاهر وقال: معنى البيت: أتوهمت وحسبت أن حبك يقتلني أو أنك مهما أمرت قلبي بشيء فعله؟ قال: يريد أن الأمر ليس على ما خيل إليك فإني مالك زمام قلبي، والوجه الأمثل هو الوجه الأول وهذا القول أرذل الأقوال، لأن مثل هذا الكلام لا يستحسن في النسيب بالحبيب.

21- وَإِنْ تَكُ قَدْ ساءَتكِ مني خَليقةٌ … فَسُلّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ

من الناس من جعل الثياب في هذا البيت بمعنى القلب، كما حملت الثياب على القلب في قول عنترة:

فشككت بالرمح الأصم ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرَّم

وقد حملت الثياب في قوله تعالى: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّر" على أن المراد به القلب، فالمعنى على هذا القول: إن ساءك خلق من أخلاقي وكرهت خصلة من خصالي فردي على قلبي أفارقك، ولا معنى على هذا القول: استخرجي قلبي من قلبك يفارقه. النسول: سقوط الريش والوبر والصوف والشعر، يقال: نسل ريش الطائر ينسل نسولًا، واسم ما سقط النسيل والنسال؛ ومنهم من رواه تنسلي وجعل الانسلاء بمعنى التسلي، والرواية الأولى أولاهما بالصواب، ومن الناس من حمل الثياب في البيت على الثياب الملبوسة وقال: كنّى بتباين الثياب وتباعدها عن تباعدهما، وقال: إن ساءك شيء من أخلاقي فاستخرجي ثيابي من ثيابك أي: ففارقيني وصارميني كما تحبين فإني لا أوثر إلا ما أثرت ولا أختار إلا ما اخترت لانقيادي لك وميلي إليك، فإذا آثرتِ فراقي آثرتُه وإن كان سبب هلاكي وجالب موتي.

22- وَما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلا لتَضْرِبِي *** بسَهمَيك في أعشار قَلبٍ مُقَتَّلِ

ذرف الدمع ذريفاً وذرفاناً وتذرافاً إذا سال، ثم يقال: ذرفت، كما يقال: دمعت عينه، وللأئمة في البيت قولان، قال الأكثرون: استعار لِلَحْظِ عينيها ودمعهما اسم السهم لتأثيرهما في القلوب وجرحهما إياها كما أن السهام تجرح الأجسام وتؤثر فيها. والأعشار من قولهم: برمة أعشار إذا كانت قطعًا، ولا واحد لها من لفظها. المقتّل: المذلل غاية التذليل، والقتل في الكلام التذليل، ومنه قولهم: قتلت الشراب إذا قللت غرب سورته بالمزاج، ومنه قول الأخطل:  

فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها *** وحب بها مقتولة حين تقتل

وقال حسان:

إن التي ناولتني فرددتها *** قُتِلَتْ قُتِلْتَ فهاتها لم تقتل

ومنه: قتلت أرض جاهلها وقتل أرضًا عالمها، ومنه قوله تعالى: "وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً". عند أكثر الأئمة: أي ما ذللوا قولهم بالعلم اليقين. وتلخيص المعنى على هذا القول: وما دمعت عيناك وما بكيت إلا لتصيدي قلبي بسهمي دمع عينيك وتجرحي قطع قلبي الذي ذللته بعشقك غاية التذليل، أي نكايتهما في قلبي نكاية السهم في المرمى، وقال آخرون: أراد بالسهمين المعلّى والرقيب من سهام الميسر. والجزور يقسم على عشرة أجزاء، فللمعلّى سبعة أجزاء وللرقيب ثلاثة أجزاء، فمن فاز بهذين القدحين فقد فاز بجميع الأجزاء وظفر بالجزور، وتلخيص المعنى على هذا القول: وما بكيت إلا لتملكي قلبي كله وتفوزي بجميع أعشاره وتذهبي بكله والأعشار على هذا القول جمع عشر؛ لأن أجزاء الجزور عشرة، والله أعلم.

23- وَبَيْضَةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤُهَا *** تَمَتَّعْتُ من لَهْوٍ بها غيرَ مُعَجَّلِ

أي: ورب بيضة خدر، يعني: ورب امرأة لزمت خدرها، ثم شبهها بالبيض، والنساء يشبهن بالبيض من ثلاثة أوجه: أحدها بالصحة والسلامة عن الطمث، ومنه قول الفرزذق:

خرجن إلَيّ لم يطمثن قبلي *** وهن أصح من بيض النَّعام

ويروى: دفعن إلي، ويروى: برزن إِلَيّ؛ والثاني: في الصيانة والستر؛ لأن الطائر يصون بيضه ويحضنه، والثالث: في صفاء اللون ونقائه؛ لأن البيض يكون صافي اللون نقيه إذا كان تحت الطائر، وربما شبهت النساء ببيض النعام، وأريد أنهن بيض تشوب ألوانهن صفرة يسيرة وكذلك لون بيض النعام، ومنه قول ذي الرُّمَّة:

كأنها فضة قد مسها الذهب

 الرَّوم: الطلب والفعل منه يروم: الخباء: البيت إذا كان من قطن أو وبر أو صوف أو شعر، والجمع الأخبية. التمتع: الانتفاع. وغير يروى بالنصب والجر فالجر على صفة لهو، والنصب على الحال من التاء في تمتعت.

ويقول: وربّ امرأة كالبيض في سلامتها من الافتضاض، أو في الصون والستر أو في صفاء اللون ونقائه، أو في بياضها المشوب بصفرة يسيرة ملازمة خدرها غير خرَّاجة ولَّاجة انتفعت باللهو بها على تمكث وتلبث لم أعجل عنها ولم أشغل عنها بغيرها.

24- تجاوَزْتُ أحْراسًا إليها ومَعْشَراً *** عليّ حِراصًا لو يُسرّونَ مقتَلي

الأحراس يجوز أن يكون جمع حارس بمنزلة صاحب وأصحاب وناصر وأنصار وشاهد وأشهاد، ويجوز أن يكون جمع حرس بمنزلة جبل وأجبال وحجر وأحجار، ثم يكون الحرّس جمع حارس بمنزلة خادم وخدّم وغائب وغيّب وطالب وطلّب وعابد وعبّد. والمعشر: القوم. والجمع المعاشر. الحراص: جمع حريص، مثل ظراف وكرام ولئام في جمع ظريف وكريم ولئيم. الإسرار: الإظهار والإضمار جميعًا؛ وهو من الأضداد، ويروى: لو يشرون مقتلي بالشين المعجمة وهو الإظهار لا غير.

يقول: تجاوزت في ذهابي إليها وزيارتي إياها أهوالًا كثيرةً وقومًا يحرسونها وقومًا حراصًا على قتلي لو قدروا عليه في خفية؛ لأنهم لا يجترئون على قتلي جهارًا، أو حراصًا على قتلي لو أمكنهم قتلي ظاهرًا لينزجر ويرتدع غيري عن مثل صنيعي؛ وحمله على الأول أولى؛ لأنه كان ملكًا والملوك لا يقدر على قتلهم علانية.

25- إذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ *** تَعَرُّضَ أثْنَاءِ الوِشَاحِ الْمُفَصَّلِ

التعرض: الاستقبال، والتعرض إبداء العرض، وهو الناحية، والتعرض الأخذ في الذهاب عرضًا. الأثناء: النواحي، والأثناء: الأوساط، واحدها ثَنَى مثل عصى وثِنَى مثل مِعَى وثِنْي مثل نِحي1، وكذلك الآناء بمعنى الأوقات والآلاء بمعنى النعم في واحدها. هذه اللغات الثلاث ذكرها كلها ابن الأنباري. المفصل: الذي فصل بين خرزه بالذهب أو غيره يقول: تجاوزت إليها في وقت إبداء الثريا عرضها في السماء كإبداء الوشاح الذي فصل بين جواهره وخرزه بالذهب أو غيره عرضه.

يقول: أتيتها عند رؤية نواحي كواكب الثريا في الأفق الشرقي، ثم شبه نواحيها بنواحي جواهر الوشاح، هذا أحسن الأقوال في تفسير البيت، ومنهم من قال: شبه كواكب الثرايا بجواهر الوشاح؛ لأن الثريا تأخذ وسط السماء كما أن الوشاح يأخذ وسط المرأة المتوشحة، ومنه من زعم أنه أراد الجوزاء فغلط وقال: الثريا لأن التعرّض للجوزاء دون الثريا، وهو قول محمد بن سلام الجمحي، وقال بعضهم: تعرض الثريا أنها إذا بلغت كبد السماء في العرض ذاهبة ساعة كما أن الوشاح يقع مائلاً إلى أحد شِقَّيْ المتوشحة به.

26- فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لنَومٍ ثيابَها *** لَدَى السِّتْر إلّا لِبْسَةَ الْمُتَفَضِّلِ

نضا الثياب ينضوها نضوًا إذا خلعها، ونضّاها يُنضِّيها إذا أراد المبالغة، اللِبسة: حالة اللابس وهيئة لبسه الثياب بمنزلة الْجِلسة والقِعدة والركبة والرِدية والإزرة. المتفضل: اللابس ثوبًا واحدًا إذا أراد الخفة في العمل والفضلة والفضل اسمان لذلك.

يقول: أتيتها وقد خلعت ثيابها عند النوم غير ثوب واحد تنام فيه وقد وقفت عند الستر مترقبة ومنتظرة، وإنما خلعت الثياب لتري أهلها أنها تريد النوم.

27- فقالتْ: يَمينَ الله ما لكَ حيلَةٌ *** وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي

اليمين: الحلف. الغواية والغي: الضلالة، والفعل: غوي يغوى غواية، ويروى العماية وهي العمى. الانجلاء: الانكشاف، وجلوته: كشفته فانجلى. الحيلة أصلها حولة فأبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. وإن في قوله وما إن زائدة، وهي تزاد مع ما النافية ومنه قول الشاعر:

وما إن طِبُّنا جبن ولكن *** منايانا ودولة آخرينا  

يقول: فقالت الحبيبة: أحلف بالله ما لك حيلة، أي: ما لي لدفعك عني حيلة، وقيل: بل معناه ما لك حجة في أن تفضحني بطروقك إياي وزيارتك ليلًا، يقال: ما له حيلة أي: ما له عذر وحجة، وما أرى ضلال العشق وعماه منكشفًا عنك، تحرير المعنى أنها قالت: ما لي سبيل إلى دفعك أو ما لك عذر في زيارتي وما أراك نازعًا عن هواك وغيك، ونصب يمين الله كقولهم: الله لأقومن، على إضمار الفعل، وقال الرواة: هذا أغنج بيت في الشعر.

28- خَرَجْتُ بها أمشي تَجُرّ وراءَنا *** على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

خرجت بها أفادت الباء تعدي الفعل، والمعنى: أخرجتها من خدرها، الأَثَرُ والإثر واحد، وأما الأثر. بفتح الهمزة وسكون الثاء. فهو فرند السيف. ويروى: على إثرنا أذيال، والذيل يجمع على الأذيال والذيول. المرط عند العرب. كساء من خز أو مرعزى1 أو من صوف، وقد تسمى الملاءة مرطًا أيضًا، والجمع المروط. المرحَّل: المنقش بنقوش تشبه رحال الإبل، يقال: ثوب مرحل وفي هذا الثوب ترحيل.

يقول: فأخرجتها من خدرها وهي تمشي وتجر مرطها على أثرنا لتُعَفِّي به آثار أقدامنا، والمرط كان موشّي بأمثال الرحال، ويروى: نير مرط، والنير: علم الثوب.

29- فلمّا أجزْنا ساحَةَ الحيّ وانْتَحَى *** بنا بطنُ خَبْتٍ ذي حِقَافٍ عقَنقَل

يقال: أجزت المكان وجزته إذا قطعته إجازة وجوازًا، الساحة تجمع على الساحات والساح والسوح مثل قارة وقارات وقار وقور. والقارة: الجبيل الصغير. الحي: القبيلة، والجمع الأحياء، وقد تسمى الحلة حيًّا. الانتحاء والتنحي والنحو: الاعتماد على الشيء، ذكره ابن الاعرابي. البطن: مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة والجمع أبطن وبطون وبطنان. الخبت: أرض مطمئنة. الحقف: رمل مشرف معوج، والجمع أحقاف وحقاف، ويروى ذي قفاف وهي جمع قف: وهو ما غلظ وارتفع من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلًا. العقنقل: الرمل المنعقد المتلبد. وأصله من العقل وهو الشد وزعم أبو عبيدة وأكثر الكوفيين أن الواو في وانتحى مقحمة زائدة وهو عندهم جواب لَمّا، وكذلك قولهم في الواو في قوله تعالى: "وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ". والواو لا تقحم زائدة في جواب لَمّا عند البصريين، والجواب يكون محذوفًا في مثل هذا الموضع تقديره في هذا البيت: فلما كان كذا وكذا تنعمت وتمتعت بها، أو الجواب قوله هصرت، وفي الآية فازا وظفرا بما أحبّا، وحذف جواب لَمّا كثير في التنزيل وكلام العرب.

يقول: فلما جاوزنا ساحة الحلة وخرجنا من بين البيوت وصرنا إلى أرض مطمئنة بين حقاف، يريد مكانًا مطمئنًا أحاطت به حقاف أو قفاف منعقدة؛ والعقنقل من صفة الخبث لذلك لم يؤنثه، ومنهم من جعله من صفة الحقاف وأحلّه محل الأسماء وعطله من علامة التأنيث لذلك. وقوله: انتحى بنا بطن خبت أسند الفعل إلى بطن خبت والفعل عند التحقيق لهما ولكنه ضرب من الاتساع في الكلام، والمعنى صرنا إلى مثل هذا المكان؛ وتلخيص المعنى: فلمّا خرجنا من مجمع بيوت القبيلة وصرنا إلى مثل هذا الموضع طاب حالنا وراق عيشنا.

30- هَصَرْتُ بفَوْدَيْ رأسِها فتَمايَلَتْ *** عليّ هَضيمَ الكَشحِ رَيًّا الْمُخلخَلِ

الهصر: الجذب والفعل هصر يهصر. الفودان جانبا الرأس. تمايلت أي: مالت. ويروى بغصني دومة، والدوم: شجر المقل، واحدتها دومة، شبهها بشجرة الدوم وشبه ذؤابتيها بغصنين وجعل ما نال منها كالثمر الذي يجتنى من الشجر، ويروى إذا قلت هاتي ناوليني تمايلت، والنول والإنالة والتنويل: الإعطاء، ومنه قيل للعطية نوال. هضيم الكشح: ضامر الكشح، والكشح: منقطع الأضلاع، والجمع كشوح وأصل الهضم الكسر، والفعل هضم يهضم، وإنما قيل لضامر البطن هضيم الكشح؛ لأنه يَدِقّ بذلك الموضع من جسده فكأنه هضيم عن قرار الردف والجنبين والوركين. ريّا: تأنيث الريان. المخلخل: موضع الخلخال من الساق، والمسوّر: موضع السوار من الذراع، والمقلد: موضع القلادة من العنق، والمقرّط: موضع القرط من الأذن. عبر عن كثرة لحم الساقين وامتلائهما بالري. هصرت جواب لَمَّا من البيت الأول عن البصريين، وأما الرواية الثالثة وهي: إذا قلت فإن الجواب مضمر محذوف عن تلك الرواية على ما مرّ ذكره في البيت الذي قبله.

يقول: لَمّا خرجنا من الحلة وأمنّا الرقباء جذبت ذؤابتيها إلَيّ فطاوعتني فيما رمت منها ومالت عليّ مسعفة بطلبتي في حال ضمر كشحيها وامتلاء ساقيها باللحم، والتفسير على الرواية الثالثة: إذا طلبت منها ما أحببت وقلت: أعطيني سؤلي كان ما ذكرنا، ونصب هضيم الكشح على الحال ولم يقل هضيمة الكشح؛ لأن فعيلًا إذا كان بمعنى مفعول لم تلحقه علامة التأنيث للفصل بين فعيل إذا كان بمعنى الفاعل وبين فعيل إذا كان بمعنى المفعول من قوله تعالى: "إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين".

31- مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءَ غيرُ مُفاضةٍ *** ترائبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ

المهفهفة: اللطيفة الخصر الضامرة البطن. المفاضة: المرأة العظيمة البطن المسترخية اللحم. الترائب جمع التريبة: وهي موضع القلادة من الصدر. السقل والصقل، بالسين الصاد: إزالة الصدأ والدنس وغيرهما. والفعل منه سقل يسقل وصقل يصقل. السجنجل: المرآة، لغة رومية عربتها العرب، وقيل بل هو قطع الذهب والفضة.

يقول: هي امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن غير عظيمة البطن ولا مسترخيته، وصدرها بَرَّاق اللون متلألئ الصفاء كتلألؤ المرآة.

32- كَبِكْرِ الْمُقاناةِ البَيَاض بصُفْرَةٍ *** غَذَاها نَمِيرُ الْمَاء غيرُ الْمُحَلَّلِ

البكر من كل صنف: ما لم يسبقه مثله. المقاناة: الخلط يقال: قانيت بين الشيئين إذا خلطت أحدهما بالآخر، والمقاناة في البيت مصوغة للمفعول دون المصدر. النمير: الماء النامي في الجسد. المحلّل ذكر أنه من الحلول، وذكر أنه من الحل، ثم إن للأئمة في تفسير البيت ثلاثة أقوال، أحدها: أن المعنى كبكر البيض التي قوني بياضها بصفرة، يعني بيض النعام وهي بيض تخالط بياضها صفرة يسيرة، شبه لون العشيقة بلون بيض النعام في أن في كل منهما بياضًا خالطته صفرة، ثم رجع إلى صفتها فقال: غذاها نمير عذب لم يكثر حلول الناس عليه فيكدره ذلك، يريد أنه عذب صاف، وإنما شرط هذا؛ لأن الماء من أكثر الأشياء تأثيرًا في الغذاء لفرط الحاجة إليه فإذا عذب وصفا حسن موقعه في غذاء شاربه؛ وتلخيص المعنى على هذا القول: إنها بيضاء تشوب بياضها صفرة وقد غذاها ماء نمير عذب صافٍ، والبياض الذي شابته صفرة أحسن ألوان النساء عند العرب.

والثاني: أن المعنى كبكر الصدفة التي خولط بياضها بصفرة، وأراد ببكرها درتها التي لم ير مثلها، ثم قال: قد غذا هذه الدرة ماء نمير وهي غير محللة لمن رامها؛ لأنها في قعر البحر لا تصل إليها الأيدي، وتلخيص المعنى على هذا القول: إنه شبهها في صفاء اللون ونقائه بدرة فريدة تضمنتها صدفة بيضاء شابت بياضها صفرة وكذلك لون الصدفة، ثم ذكر أن الدرة التي أشبهتها حصلت في ماء نمير لا تصل إليها أيدي طلابها، وإنما شرط النمير والدر لا يكون إلا في الماء الملح؛ لأن الملح له بمنزلة العذب لنا إذ صار سبب نمائه كما صار العذب سبب نمائنا.

والثالث: أنه أراد كبكر البرديّ التي شاب بياضها صفرة وقد غذا البردي ماء نمير لم يكثر حلول الناس عليه، وشرط ذلك ليسلم الماء عن الكدر وإذا كان كذلك لم يغير لون البردي، والتشبيه من حيث أن بياض العشيقة خالطته صفرة كما خالطته بياض البردي. ويروى البيت بنصب البياض وخفضه، وهما جيدان، بمنزلة قولهم: زيد الحسن الوجه، والحسن الوجه، بالخفض على الإضافة والنصب على التشبيه كقولهم: زيد الضارب الرجل.

33- تصُدّ وتُبْدي عن أسيلٍ وتَتَّقي *** بناظرّةٍ من وَحشِ وَجْرَةَ مُطْفِلٍ

الصد والصدود: الإعراض والصد أيضًا الصرف والدفع، والفعل منه صدَّ يصُدُّ، والإصداد الصرف أيضاً. الإبداء: الإظهار. الأسالة: امتداد وطول في الخد وقد أسل أسالة فهو أسيل. الاتقاء: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقيته بترس أي: جعلت الترس حاجزًا بيني وبينه. وجرة: موضع، الْمُطفِل: التي لها طفل. الوحش: جمع وحشي مثل زنج وزنجي وروم ورومي. 

يقول: تعرض العشيقة عني وتظهر خدًّا أسيلًا، وتجعل بيني وبينها عينًا ناظرة من نواظر وحش هذا الموضع التي لها أطفال، شبهها في حسن عينيها بظبية مُطْفِلِ أو بمهاة مطفل، وتلخيص المعنى: أنها تعرض عنا فتظهر في إعراضها خدًّا أسيلا وتسقبلنا بعين مثل عيون ظباء وجرة أو مهاها واللواتي لها أطفال، وخصهن لنظرهن إلى أولادهن بالعطف والشفقة وهي أحسن عيونًا في تلك الحال منهن في سائر الأحوال. قوله: عن أسيل، أي عن خد أسيل، فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله: مررت بعاقل، أي: بإنسان عاقل، وقوله: من وحش وجرة، أي: من نواظر وحش وجرة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله تعالى: "وَاسْأَلِ الْقَرْيَة" أي: أهل القرية.

34- وَجِيدٍ كَجِيدِ الرّئْمِ ليسَ بفاحشٍ *** إذا هي نَصّتْهُ وَلا بِمُعَطَّلِ

الرئم: الظبي الأبيض الخالص البياض، والجمع آرام. النص: الرفع، ومنه سمي ما تُجلى عليه العروس مِنَصَّة، ومنه النص في السير وهو حمل البعير على سير شديد، ونصصت الحديث أنصه نصًّا: رفعته. الفاحش: ما جاوز القدر المحمود من كل شيء.

يقول: وتبدي عن عنق كعنق الظبي غير متجاوز قدره المحمود إذا ما رفعت عنقها، وهو غير معطل، عن الحلي، فشبه عنقها بعنق الظبية في حال رفعها عنقها، ثم ذكر أنه لا يشبه عنق الظبي في التعطل عن الحلي.

35- وَفَرْعٍ يَزينُ الْمَتنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ *** أثيتٍ كَقِنْوِ النخلةِ الْمُتَعَثْكِلِ

الفرع: الشعر التام، والجمع فروع، ورجل أفرع وامرأة فرعاء. الفاحم: الشديد السواد، مشتق من الفحم، يقال: هو فاحم بَيِّنَ الفحومة. الأثيث: الكثير، والأثاثة: الكثرة، يقال: أثّ الشعر والنبت. القنو يجمع على الأقناء والقنوان. العثكول والعثكال قد يكونان بمعنى القنو وقد يكونان بمعنى قطعة من القنو، والنخلة المتعثكلة: التي خرجت عثاكيلها أي: قنوانها

يقول: وتبدي عن شعر طويل تام يزين ظهرها إذا أرسلته عليه، ثم شبه ذؤابتيها بقنو نخلة أخرجت قنوانها، والذوائب تشبه بالعناقيد، والقنوان يراد به تجعدها وأثاثتها.

36- غدائرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا *** تَضِلّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ

الغدائر: جمع الغديرة: وهي الخصلة من الشعر، الاستشزار: الارتفاع والرفع جميعًا، فيكون الفعل منه مرة لازمًا ومرة متعديًا، فمن روى مستشزرات بكسر الزاي جعله من اللازم، ومن روى بفتح الزاي جعله من المتعدي. العقيصة: الخصلة المجموعة من الشعر، والجمع عقص وعقائص، والفعل من الضلال والضلالة ضل يضِل ويضَلّ جميعًا.

يقول: ذوائبها وغدائرها مرفوعات أو مرتفعات إلى فوق، يراد به شدها على الرأس بخيوط، ثم قال: تغيب تعاقيصها في شعر مثنى وبعضه مرسل، أراد به وفور شعرها، والتعقيص التجعيد.

37- وَكَشْحٍ لطيفٍ كالجديلِ مُخَصَّرٍ *** وَساقٍ كأنْبوبِ السّقيّ الْمُذَلَّلِ

الجديل: خطام1 يتخذ من الأدم، والجمع جدل. المخصر: الدقيق الوسط، ومنه نعل مخصرة. الأنبوب: ما بين العقدتين من القصب وغيره، والجمع الأنابيب السَّقِيِّ ههنا: بمعنى المسقي كالجريح بمعنى المجروح، والْجَنِي بمعنى المجني.

يقول: وتبدي عن كشح ضامر يحكي في دقته خطامًا متخذًا من الأدم، وعن ساق يحكي في صفاء لونه أنابيب بردي بين نخل وقد ذللت بكثرة الحمل فأظلت أغصانها هذا البردي، شبه ضمور بطنها بمثل هذا الخطام، وشبه صفاء لون ساقها ببردي بين نخيل تظله أغصانها، وإنما شرط ذلك ليكون أصفى لونًا وأنقى رونقًا وتقدير قوله كأنبوب السقي كأنبوب النخل المسقي، ومنهم من جعل السقي نعتًا للبردي أيضاً؛ والمعنى على هذا القول: كأنبوب البردي المسقي المذلل بالإرواء.

38- وتُضْحِي فتيتُ الْمِسكِ فوق فراشها … نؤومُ الضُّحَى لم تَنْتَطِقْ عن تفضّلِ

الإضحاء: مصادفة الضحى، وقد يكون بمعنى الصيرورة أيضًا، ويقال أضحى زيد غنيًّا أي: صار ولا يراد به أنه صادف الضحى على صفة الغنى، ومنه قول عدي بن زيد:

ثم أضحوا كأنهم ورق جَفَّ *** فألوت به الصبا والدَّبور

أي صاروا. الفتيت والفتات: اسم لدقائق الشيء الحاصل بالفَتِّ. قوله: نؤوم الضحى، عطَّل نؤومًا عن علامة التأنيث لأن فعولًا إذا كان بمعنى الفاعل يستوي لفظ صفة المذكر والمؤنث فيه، يقال: رجل ظلوم وامرأة ظلوم ومنه قوله تعالى: "تَوْبَةً نَصُوحًا". قوله: لم تنتطق عن تفضل، أي بعد تفضل كما يقال: استغنى فلان عن فقره أي: بعد فقره؛ والتفضل: لبس الفضلة، وهي ثوب واحد يلبس للخفة في العمل.

يقول: تصادف العشيقة الضحى ودقائق المسك فوق فراشها الذي باتت عليه، وهي كثيرة النوم في وقت الضحى، ولا تشد وسطها بنطاق بعد لبسها ثوب المهنة، يريد أنها مخدومة منعَّمة تُخدم، ولا تَخدم، وتلخيص المعنى: أن فتات المسك يكثر على فراشها وأنها تكفى أمورها فلا تباشر عملًا بنفسها. وصفها بالدعة والنعمة وخفض العيش وأن لها من يخدمها ويكفيها أمورها.

39- وتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنَّهُ *** أساريعُ ظبْيٍ أوْ مساويكُ إسْحِلِ

العطو: التناول والفعل عطا يعطو عطوًا، والإعطاء المناولة، والتعاطي التناول، والمعاطاة الخدمة، والتعطية مثلها. الرخص: اللين الناعم. الشثن: الغليظ الكز، وقد شن شثونة الأسروع واليسروع دود يكون في البقل والأماكن الندية، تشبه أنامل النساء به، والجمع الأساريع واليساريع. ظبي: موضع بعينه. المساويك جمع المسواك. الإسحل: شجرة تدق أغصانها في استواء، تشبه الأصابع بها في الدقة والاستواء.  

يقول: وتتناول الأشياء ببنان رخص ليّن ناعم غير غليظ ولا كز، كأن تلك الأنامل تشبه هذا الصنف من الدود أو هذا الضرب من المساويك وهو المتخذ من أغصان هذا الشجر المخصوص المعيّن.

40- تُضيءُ الظَّلامَ بالعِشاءِ كأنَّها *** مَنَارَةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتِّلِ

الإضاءة: قد يكون الفعل المشتق منها لازماً وقد يكون متعديًّا، تقول: أضاء الله الصبح فأضاء، والضَّوء والضُّوء واحد، والفعل ضاء ضوءاً، وهو لازم. المنارة: المسرجة، الجمع المناور والمنائر. الممسى: بمعنى: الإمساء والوقت جميعًا؛ ومنه قول أمية:

الحمد لله ممسانا ومصبحنا *** بالخير صبّحنا ربي ومسانا

الراهب يجمع على الرهبان، مثل راكب وركبان وراع ورعيان، وقد يكون الرهبان واحد ويجمع حينئذ على الرهابنة والرهابين كما يجمع السلطان على السلاطنة والسلاطين، أنشد الفراء:

لو أبصرت رهبانَ دير في جبل *** لانحدر الرهبانُ يسعى ويُصَلْ

جعل الرهبان واحدًا، لذلك قال: يسعى، ولم يقل: يسعون. المتبتل: المنقطع إلى الله بنيته وعمله، والبتل: القطع، ومنه قيل: مريم البتول لانقطاعها عن الرجال واختصاصها بطاعة الله تعالى، فالتبتل إذن الانقطاع عن الخلق والاختصاص بطاعة الله تعالى ومنه قوله تعالى: "وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا".

يقول: تضيء العشيقة بنور وجهها ظلام الليل فكأنها مصباح راهب منقطع عن الناس، وخص مصباح الراهب؛ لأنه يوقده ليهتدي به عند الضلال فهو يضيئه أشد الإضاءة، يريد أن نور وجهها يغلب ظلام الليل كما أن نور مصباح الراهب يغلبه. 

المصدر: شرح المعلقات السبع للزوزني. 

الجزء الثاني: من 41 - 81

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عزيزي الزائر:
أهلاً وسهلاً بك اكتب ملاحظاتك أو سؤالك أو راسلنا على صفحة النحو والصرف:
https://www.facebook.com/arabicgrammar1255/

جميع الحقوق محفوظه © الإشراق1

تصميم الورشه