شرح معلقة لبيد بن ربيعة للزوزني

شرح معلقة لبيد بن ربيعة للزوزني

1- عَفَتِ الدِّيَار مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا … بِمِنىً تَأَبَّد غَوْلُهَا فَرِجَامُها

عفا لازم ومتعد، يقال: عفت الريح المنزل وعفا المنزل نفسه عُفُوّاً وعفاء، وهو في البيت لازم. الْمَحلّ من الديار: ما حل فيه لأيام معدودة، والمقام منها: ما طالت الإقامة به. منى: موضع بحمى ضرية غير منى الحرم، ومنى ينصرف ولا ينصرف ويذكر ويؤنث. تأبد: توحش، وكذلك أبِد يأبَدُ ويأبُدُ أبوداً. الغول والرجام: جبلان معروفان؛ ومنه قول أوس بن حجر:

زعمتم أن غولًا والرجام لكم … ومنعجاً فاذكروا الأمر مشترك

يقول: عفت ديار الأحباب وانمحت منازلهم ما كان منها للحلول دون الإقامة وما كان منها للإقامة، وهذه الديار كانت بالموضع المسمى منى، وقد توحشت الديار الغولية، والديار الرجامية منها لارتحال قطانها واحتمال سكانها، والكناية في غولها ورجامها راجعة إلى الديار، قوله: تأبد غولها، أي: ديار غولها وديار رجامها، فحذف المضاف.

2- فَمَدافِعُ الرّيَانِ عُرّى رَسْمُهَا … خَلقًا كما ضَمِنَ الوُحيَّ سِلامُها

المدافع: أماكن يندفع عنها الماء من الربى والأخياف، الواحد مدفع. الريان: جبل معروف؛ ومنه قول جرير:

يا حبَّذا جبل الريان من جبل … وحبذا ساكن الريان من كانا

التعرية: مصدر عريته فعري وتعرّى. الوحي: الكتابة، والفعل وحى والوحي الكتاب، والجمع الوُحي. السلام: الحجارة والواحدة سَلِمة، بكسر اللام؛ فمدافع: معطوف على قوله غولها.

يقول: توحشت الديار الغولية والرجامية، وتوحشت مدافع جبل الريان لارتحال الأحباب منها واحتمال الجيران عنها، ثم قال: وقد توحشت وغيرت رسوم هذه الديار فعريت خَلَقًا وإنما عراها السيول ولم تنمحِ بطول الزمان، فكأنه كتاب ضمن حجراً، شبه بقاء الآثار لقدم الأيام ببقاء الكتاب في الحجر، ونصب خلقًا على الحال، والعامل فيه عري، والمضمر الذي أضيف إليه سِلام عائد إلى الوحي.

3- دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهدِ أنيسِها … حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وَحَرَامُها

التجرم: التكمل والانقطاع، يقال: تجرّمت السنة وسنة مجرّمة أي مكملة. العهد: اللقاء، والفعل عهد يعهد، الحجج: جمع حجة وهي السنة. وأراد بالحرام الأشهر الحرم، وبالحلال أشهر الحل. الخلو: المضي، ومنه الأمم الخالية، ومنه قوله عز وجل: "وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي".

يقول: هي آثار ديار قد تمت وكملت وانقطعت بعد عهد سكانها بها. سنون مضت أشهر الحرم وأشهر الحل منها؛ وتحرير المعنى: قد مضت بعد ارتحالهم عنها سنون بكمالها. خلون: المضمر فيه راجع إلى الحجج، وحلالها بدل من الحجج، وحرامها معطوف عليها، والسنة لا تعدو أشهر الحرم وأشهر الحل، فعبر عن مضي السنة بمضيهما.  

4- رُزِقَتْ مرَابيعَ النّجومِ وَصَابَهَا … وَدْقُ الرّواعِدِ جَوْدُهَا فَرِهامُها

مرابيع النجوم: الأنواء الربيعية وهي المنازل التي تحلّها الشمس فصل الربيع، الواحد مِرباع. الصَّوب: الإصابة، يقال: صابه أمر كذا وأصابه بمعنى. الودق: المطر، وقد ودِقت السماء تدِق ودقاً إذا أمطرت. الجود: المطر التام العام، وقال ابن الأنباري: هو المطر الذي يرضي أهله، وقد جاد المطر يجود جوداً فهو جَود. الرواعد: ذوات الرعد من السحاب، واحدتها راعدة. الرِهام والرِهَم: جمعا رِهمة وهي المطرة التي فيها لين يقول: رزقت الديار والدمن أمطار الأنواء الربيعية فأمرعت، وأعشبت وأصابها مطر ذوات الرعود من السحاب ما كان منه عامًّا بالغًا مرضيًا أهله، وما كان منه لينًا سهلاً؛ وتحرير المعنى: أن تلك الديار ممرعة معشبة لترادف الأمطار المختلفة عليها ونزهتها.

5- مِنْ كُلّ سَارِيَةٍ وَغَادٍ مُدْجِنٍ … وَعَشِيّةٍ مُتَجَاوِبٍ إرْزَامُهَا

السارية: السحابة الماطرة ليلًا، والجمع السواري. المدجن: الملبس آفاق السماء بظلامه لفرط كثافته، والدجن: إلباس الغيم آفاق السماء، وقد أدجن الغيم. الإرزام: التصويت، وقد أرزمت الناقة إذا رغت، والاسم الرزمة، ثم فسر تلك الأمطار

فقال: هي من كل مطر سحابة سارية ومطر سحاب غادٍ يلبس آفاق السماء بكثافته وتراكمه، وسحابة عشية تتجاوب أصواتها، أي كأن رعودها تتجاوب، جمع لها أمطار السنة؛ لأن أمطار الشتاء أكثرها يقع ليلاً، وأمطار الربيع أكثرها يقع غداة، وأمطار الصيف أكثرها يقع عشيّاً؛ كذا زعم مفسرو هذا البيت.

6- فَعَلَا فُرُوعُ الأيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ … بالْجَلْهَتَيْنِ ظِباؤها ونَعَامُها

الأيهقان، بفتح الهاء وضمها: ضرب من النبت وهو الجرجير البري. أطفلت أي صارت ذوات أطفال. الجلهتان: جانبا الوادي، ثم أخبر عن إخصاب الديار وإعشابها فقال: فعلت بها فروع هذا الضرب من النبت وأصبحت الظباء والنعام ذوات أطفال بجانبي وادي هذه الديار؛ قوله: ظباؤها ونعامها، يريد: وأطفلت ظباؤها وباضت نعامها؛ لأن النعام تبيض ولا تلد الأطفال، ولكنه عطف النعام على الظباء في الظاهر لزوال اللبس؛ ومثله قول الشاعر:

إذا ما الغانيات برزن يومًا … وزججن الحواجب والعيونا

أي وكحلن العيون، وقول الآخر:

تراه كأن الله يجدع أنفه … وعينيه أن مولاه صار له وَفْر

أي ويفقأ عينيه، وقول الآخر:

يا ليت زوجك قد غدا … متقلداً سيفاً ورمْحًا

أي وحاملاً رمْحاً، تضبط نظائر ما ذكرنا، وزعم كثير من الأئمة النحويين البصريين والكوفيين أن هذا المذهب سائغ في كل موضع، ولوّح أبو الحسن الأخفش إلى أن المعوّل فيه على السماع.

7- وَالعينُ ساكِنَةٌ عَلى أطْلائِها … عُوذًا تَأجَّل بالفَضَاءِ بِهَامُها

العين: واسعات العيون. الطَّلا: ولد الوحش حين يولد إلى أن يأتي عليه شهر، والجمع الأطلاء، ويستعار لولد الإنسان وغيره. العوذ: الحديثات النتاج، الواحدة عائذ، مثل عائط وعوط وحائل وحول وبازل وبزل وفاره وفره، وجمع الفاعل على فُعْل قليل معول فيه على الحفظ. الإجل: القطيع من بقر الوحش، والجمع الآجال والتأجل: صيرورتها إجْلاً إجلاً. الفضاء: الصحراء. البهام: أولاد الضأن إذا انفردت وإذا اختلطت بأولاد الضأن أولاد المعز قيل للجميع بهام، وإذا انفردت أولاد المعز عن أولاد الضأن لم تكن بِهامًا، وبقر الوحش بمنزلة الضأن وشاء الجبل بمنزلة المعز عند العرب، وواحد البهام بَهْم، وواحد البهم بهمة، ويجمع البهام على البهامات.

يقول: والبقر الواسعات العيون قد سكنت وأقامت على أولادها ترضعها حال كونها حديثات النتاج وأولادها تصير قطيعًا قطيعاً في تلك الصحراء، فالمعنى من هذا الكلام: أنها صارت مغنى الوحوش بعد كونها مغنى الإنس. ونصب عوذًا على الحال من العين.

8- وَجَلَا السّيُولُ عَنِ الطَّلولِ كأنَّها … زُبُرٌ تُجِدّ مُتُونَهَا أقْلامُها

جلا: كشف، يجلو جلاء؛ وجلوت العروس جلوة من ذلك، وجلوت السيف جلاء صقلته، منه أيضاً. السيول: جمع سيل مثل بيت وبيوت وشيخ وشيوخ، الطلول

جمع الطلل. الزبر: جمع زبور وهو الكتاب والزَبْر الكتابة، والزبور فعول بمعنى المفعول بمنزلة الركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب. الإجداد والتجديد واحد.

يقول: وكشفت السيول عن أطلال الديار فأظهرتها بعد ستر التراب إياها، فكأن الديار كتب تجدد الأقلام كتابتها، فشبه كشف السيول عن الأطلال التي غطاها التراب بتجديد الكتّاب سطور الكتاب الدارس، وظهور الأطلال بعد دروسها بظهور السطور بعد دروسها، وأقلام مضافة إلى ضمير زبر، واسم كأن ضمير الطلول.

9- أوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفّ نَئُورُها … كِفَفًا تَعَرّضَ فَوْقَهُنّ وِشامُها

الرجع: الترديد والتجديد، وهو من قولهم: رجعته أرجعه رجعاً فرجع يرجع رجوعاً. وقد فسرنا الواشمة. الإسفاف: الذَّرّ وهو من قولهم؛ سفَّ زيد السُّويق وغيره يسفه سفًّا وأسففته السويق وغيره، ثم يقال: أسففت الدواء الجرح والكحل العين. النئور: النقش الْمتّخذ من دخان السراج والنار، وقيل النيلج. الكِفَف: جمع كفة وهي الدارات، وكل شيء مستدير كفة، بكسر الكاف، وجمعها كفف، وكل مستطيل كُفة، بضمها، والجمع كُفَف، كذا حكى الأئمة. تعرَّض وأعرض: ظهر ولاح. الوشام، جمع وشم؛ شبه ظهور الأطلال بعد دروسها بتجديد الكتابة وتجديد الوشم.

يقول: كأنها زبر أو ترديد واشمة وشْمًا قد ذرت نئورها في دارات ظهر الوشام فوقها، فأعادتها كما تعيد السيول الأطلال إلى ما كانت عليه، فجعل إظهار السيل الأطلال كإظهار الواشمة الوشم، وجعل دروسها كدروس الوشم. نئورها: اسم ما لم يسم فاعله. وكففًا هو المفعول الثاني بقي على انتصابه بعد إسناد الفعل إلى المفعول. وشامها: فاعل تعرض وقد أضيف إلى ضمير الواشمة.

10- فوقَفْتُ أسألُهَا وكَيفَ سُؤالُنا … صُمًّا خَوالِدَ ما يَبينُ كَلامُها

الصم: الصِّلاب، والواحد أصم والواحدة صماء، خوالد: بواق، يبين: يظهر بان يبين بياناً، وأبان قد يكون بمعنى أظهر ويكون بمعنى ظهر، وكذلك بَيَّنَ وتَبَيَّنَ قد يكون بمعنى ظهر وقد يكون بمعنى عرف، واستبان كذلك، فالأول لازم والأربعة قد تكون لازمة وقد تكون متعدية، وقولهم: أبان الصبح لذي عينين، أي ظهر فهو هنا لازم. ويروى في البيت: ما يَبين كلامها وما يُبين، بفتح الياء وضمها، وهما بمعنى ظهر.

يقول: فوقفت أسأل الطلول عن قُطَّانها وسكانها، ثم قال: وكيف سؤالنا حجارة صلابًا بواقي لا يظهر كلامها، أي: كيف يجدي هذا السؤال على صاحبه وكيف ينتفع به السائل؟ لوّح إلى أن الداعي إلى هذا السؤال فَرْطُ الكلف والشغف وغاية الوله، وهذا مستحب في النسيب والمرثية؛ لأن الهوى والمصيبة يُدلِّهان صاحبهما.

11- عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَميعُ فَأَبْكَرُوا … مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤيُهَا وَثُمَامُهَا

بكرت من المكان وأبكرت وابتكرت وبكّرت بمعنىً، أي سرت منه بكرة. المغادرة: الترك غادرت الشيء تركته وخلّفته، ومنه الغدير؛ لأنه ماء تركه السيل وخلفه، والجمع الغدر والغدران والأغدرة. النؤي: نهير يحفر حول البيت لينصبَّ إليه الماء من البيت، والجمع نؤي وأنآء وتقلب فيقال آناء مثل أبآر وآبار وأرآء وآراء. الثمام: ضرب من الشجر رخو يسد به خلل البيوت.

يقول: عرِيت الطلول عن قُطَّانها بعد كون جميعهم بها، فساروا منها بكرة وتركوا النؤي والثمام، أي لم يبق بمنازلهم منهم آثار إلا النؤي والثمام، وإنما لم يحملوا الثمام؛ لأنه لا يعوزهم في محالِّهم.

12 - شاقَتْكَ ظُعْنُ الْحَيّ حينَ تَحَمّلوا … فَتَكَنّسُوا قُطُنًا تَصِرّ خِيامُها

الظُعْن: بتسكين العين تخفيف الظُّعُن بضمها، وهي جمع الظعون: وهو البعير الذي عليه هودج وفيه امرأة، وقد يكون الظعن جمع ظعينة وهي المرأة الظاعنة مع زوجها، ثم يقال لها وهي في بيتها ظعينة، وقد يجمع بالظعائن أيضًا. التكنس: دخول الكنائس والاستكنان به. القطن: جمع قطين وهو الجماعة، والقطن واحد. الصرير: صوت الباب والرحل وغير ذلك يقول: حملتك على الاشتياق والحنين ونساء الحي أو مراكبهن يوم ارتحل الحي ودخلوا في الكنس، جعل الهوادج للنساء بمنزلة الكنس للوحش، ثم قال: وكانت خيامهم المحمولة تصرّ لجدتها. وتلخيص المعنى: دعتك إلى الاشتياق والنزاع وحملتك عليهما نساء القبيلة حين دخلن هوادجهن جماعات في حال صرير خيامهن المحمولة، أو دخلن هوادج غطيت بثياب القطن، والقطن من الثياب الفاخرة عندهم، والضمير في تكنسوا للحي، والمضمر الذي أضيف إليه الخيام للظعن، وقطنًا منصوبًا على الحال إن جعلته جمع قطين، ومفعول به إن جعلته قطناً.

13- منْ كُلّ مَحفُوفٍ يُظِلّ عِصيَّهُ … زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وَقِرَامُها

حفَّ الهودج وغيره بالثياب: إذا غطي بها، وحف الناس حول الشيء أحاطوا به. أظلّ الجدار الشيء: إذا كان في ظل الجدار. العصي هنا: عيدان الهودج. الزوج: النمط من الثياب، والجمع الأزواج. الكِلّة: الستر الرقيق، والجمع الكلل. القرام: الستر، والجمع القرم، ثم فصل الظعن فقال: هي من كل هودج حُفَّ بالثياب يظل عيدانه نمط أرسل عليه، ثم فصل الزوج فقال: هو كِلة، وعبر بها عن الستر الذي يلقى فوق الهودج لئلا تؤذي الشمس صاحبته، وعبر بالقرام عن الستر المرسل على جونب الهودج، وتحرير المعنى: الهوادج محفوفة بالثياب فعيدانها تحت ظلال ثيابها، والمضمر بعد القرام للعصى أو الكِلّة.

14- زُجَلًا كأنّ نِعاجَ تُوضِحَ فَوْقَها … وَظِبَاء وَجْرَةَ عُطَّفًا أَرْآمُهَا

الزجل: الجماعات، الواحدة زُجْلة. النعاج: إناث بقر الوحش، الواحدة نعجة. وجرة: موضع بعينه. الطعف: جمع العاطف من العطف الذي هو الترحم أو من العطف الذي هو الثني، الأرآم: جمع الرئم وهو الظبي الخالص البياض.

يقول: تحملوا جماعات كأن إناث بقر الوحش فوق الإبل، شبه النساء في حسن الأعين والمشي بها أو بظباء وجرة في حال ترحمها على أولادها أو في عطفها أعناقها للنظر إلى أولادها. شبه النساء بالظباء في هذه الحال؛ لأن عيونها أحسن ما

تكون في هذه الحال لكثرة مائها، وتحرير المعنى: أنه شبه النساء ببقر توضح وظباء وجرة في كحل أعينها؛ نصب زجلًا على الحال والعامل فيها تحملوا، ونصب عطفاً على الحال، ورفع أرآمها لأنها فاعل والعامل فيها الحال السادة مَسدّ الفعل.

15- حُفِزَتْ وَزَايَلَهَا السَّرَابُ كَأَنَّهَا … أَجْزَاعُ بِيشَةَ أَثْلُهَا وَرِضَامُهَا

الحفز: الدفع، والفعل حفز يحفز. الأجزاع: جمع جزع وهو منعطف الوادي. بيشة: واد بعينه. الأثل: شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منها. الرضام: الحجارة العظام، الواحدة رَضْمة وَرَضَمة، والجنس رَضْم وَرَضَم.  

يقول: دفعت الظعن، أي ضربت الركاب لتجد في السير وفارقها قطع السراب، أي لاحت خلال قطع السراب ولمعت، فكأن الظعن منعطفات وادي بيشة أثلها وحجارتها العظام، شبهها في العظم والضخم بهما، والضمير الذي أضيف إليه أثل ورضام لبيشة.

16- بَلْ ما تَذَكَّرَ من نَوَارَ وقَد نأتْ … وَتَقَطّعَتْ أَسبابُها وَرِمَامُهَا

نوار: اسم امرأة يشبب بها. النأي: البعد. الرمام: جمع الرمة وهي قطعة من الحبل خَلِقَة ضعيفة. ثم أضرب عن صفة الديار ووصف حال احتمال الأحباب بعد تمامها، وأخذ في كلام آخر من غير إبطال لما سبق. بل، في كلام الله تعالى، لا تكون إلا بهذا المعنى؛ لأنه لا يجوز منه إبطال كلامه وإكذابه.

قال مخاطباً نفسه: أي شيء تتذكرين من نوار في حال بعدها وتقطع أسباب وصالها ما قوي منها وما ضعف.

17- مُرّيّةٌ حَلّتْ بفَيْدَ وَجَاوَرَتْ … أهْلَ الْحِجازِ فأينَ منكَ مَرَامُها

مرية: منسوبة إلى مرّة. فيد: بلد معروفة، ولم يصرفها لاستجماعها التأنيث والتعريف، وصرفها سائغ أيضًا لأنها مصوغة على أخف أوزان الأسماء فعادلت الخفة أحد السببين فصارت كأنه ليس فيها إلا سبب واحد لا يمنع الصرف. وكذلك حكم كل اسم كان على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط مستجمعاً للتأنيث والتعريف نحو هند ودعد؛ وأنشد النحويون:

لم تتلفع بفضل مئزرها … دعد ولم تُغْذَ دعد في العلب

ألا ترى الشاعر كيف جمع بين اللغتين في هذا البيت؟.

يقول: نوار امراة من مرة حلت بهذه البلدة وجاورت أهل الحجاز، يريد أنها تحل بفيد أحيانًا وتجاور أهل الحجاز أحيانًا، وذلك في فصل الربيع وأيام الإنتاج؛ لأن الحالّ بفيد لا يكون مجاورًا أهل الحجاز؛ لأن بينها وبين الحجاز مسافة بعيدة، ثم قال: فأين منك مطلبها، أي تعذر عليك طلبها؛ لأن بين بلادك وفيد والحجاز مسافة بعيدة وتيهاً قَذَفًا؛ وتلخيص المعنى أنه يقول: هي مرية تتردد بين الموضعين وبينهما وبين بلادك بعد، وكيف يتيسر لك طلبها والوصول إليها؟

18- بِمَشَارِقِ الْجَبَلَيْنِ أَوْ بِمُحَجَّرٍ … فَتَضَمّنَتْهَا فَرْدَةٌ فَرُخامُهَا

عنى بالجبلين: جبلي طي أجأ وسلمى. المحجر: جبل آخر. فردة: جبل منفرد عن سائر الجبال سمي بها لانفرادها عن الجبال. رخام: أرض متصلة لذلك أضافها إليها.

يقول: حلّت نوار بمشارق أجأ وسلمى، أي جوانبهما التي تلي المشرق، أو حلت بمحجر فتضمنتها فردة فالأرض المتصلة بها وهي رخام، إنما يحصي منازلها عند حلولها بفيد، وهذه الجبال قريبة منها بعيدة من الحجاز. تضمن الموضع فلانًا إذا حصل فيه، وضمنته فلانًا إذا حصلته فيه، مثل قولك: ضمنته القبر فتضمنه القبر.

19- فَصُوَائِقٌ إنْ أَيْمَنَتْ فَمِظَنّةٌ … فيها وِحَافُ القَهْرِ أَوْ طِلْخامُها

يقال: أيْمَنَ الرجل إذا أتى اليمن، مثل أعرَقَ إذا أتى العراق وَأَخْيَفَ إذا أتى خَيْفَ مِنى. مظنّة الشيء: حيث يظن كونه فيه، وهو من الظن، بالظاء، وأما قولهم: علق مضنة، هو من الضن، بالضاد، أي هو شيء نفيس يبخل به، صوائق: موضع معروف. وحاف القهر، بالراء غير معجمة: موضع معروف، ومنها من رواه بالزاي معجمة. طلخام: موضع معروف أيضًا.

يقول: وإن انتجعت نحو اليمن فالظن أنها تحل بصوائق، وتحل من بينها بوحاف القهر أو بطلخام، وهما خاصان بالإضافة إلى صوائق؛ وتلخيص المعنى: أنها إن أتت اليمن حلت بوحاف القهر أو طلخام من صوائق.

20-فَاقْطَعْ لُبَانَةَ مَنْ تَعَرَّضَ وَصْلُهُ … وَلَشَرُّ وَاصِلِ خُلةٍ صَرّامُها

اللُّبانة: الحاجة، الْخُلَّة: المودة المتناهية، والخليل والْخِل والْخُلّة واحد. 

الصرّام: القطّاع، فَعّال من الصرم وهو القطع، والفعل صَرَمَ يصرِم، ثم أضرب عن ذكر نوار وأقبل على نفسه مخاطبًا إياها فقال: فاقطع أربك وحاجتك ممن كان وصله معرضاً للزوال والانتقاض، ثم قال: وشر من وصل محبة أو حبيبًا من قطعها، أي شر واصلي الأحباب أو المحبات قطّاعها، يذم من كان وصله في معرض الانتكاث والانتقاض. ويروى: ولخير واصل، وهذه أوجَه الروايتين وأمثلهما، أي: خير واصلي المحبات أو الأحباب إذا رجا غيرهم قطاعها إذا يئس منه. قوله: لبانة من تَعَرَّض، أي لبانتك منه لأن قطع لبانته منك ليس إليك.

21- وَاحْبُ الْمُجَامِلَ بالْجَزيلِ وَصَرْمُهُ … باقٍ إذَا ظَلَعَتْ وَزَاغَ قِوَامُها

حبوته بكذا أحبوه حباء: إذا أعطيته إياه. المجامل: المصانع، ويروى: المحامل، أي: الذي يتحمل أذاك كما تتحمل أذاه. بالجزيل أي الود الجزيل. الجزالة: الكمال والتمام، وأصله الضخم والغلظ، والفعل جزل يجزل، والنعت جزل وجزيل، ومنه خطب جزل وجزيل وعطاء جزل وجزيل، وقد أجزل عطيته وفرها وكثّرها. الصرم: القطيعة. الظلع: غمز1 في الدواب. الزيغ: الميل، والإزاغة الإمالة. قوام الشيء: ما يقوم به.

يقول: واحب من جاملك وصانعك وداراك بود كامل وافر، ثم قال: وقطيعته باقية إن ظلعت خلّته ومال قوامها، أي إن ضعفت أسبابها ودعائمها، أي إن حال المجامل عن كرم العهد فأنت قادر على صرمه وقطيعته، فالمضمر الذي أضيف إليه قوامها للخلة وكذلك المضمر في ظلعت.

22- بِطَليحِ أَسْفَارٍ تَرَكْنَ بَقيّةً … مِنْهَا فَأَحْنَقَ صُلْبُهَا وَسَنَامُها

الطلح والطليح: المعيي، وقد طلحت البعير أطلحه طلحاً أعييته، فطليح فعيل بمعنى مفعول بمنزلة الجريح والقتيل، وطلح فعل في معنى مفعول بمنزلة الذبح والطحن بمعنى المذبوح والمطحون. أسفار: جمع سفر. الإحناق: الضمر. الباء في قوله: "بلطيح" من صلة "وصرمة".  

يقول: إذا زال قوام خُلته فأنت تقدر على قطيعته، بركوب ناقة أعيتها الأسفار وتركت بقية من لحمها وقوتها فضمر صلبها وسنامها؛ وتلخيص المعنى: فأنت تقدر على قطيعته بركوب ناقة قد اعتادت الأسفار ومرنت عليها.

23- وَإِذَا تَغَالَى لَحْمُهَا وَتَحَسّرَتْ … وَتَقَطَّعَتْ بعدَ الكَلالِ خِدامُهَا

تغالى لحمها: ارتفع إلى رءوس العظام، من الغلاء وهو الارتفاع، ومنه قولهم: غلا السعر يغلو غلاء، إذا ارتفع، تحسرت أي صارت حسيرًا، أي كالّة مُعيية عارية عن اللحم. الخدام: جمع خدم، والخدم جمع خدمة، وهي سيور تشد بها النعال إلى أرساغ الإبل.

يقول: فإذا ارتفع لحمها إلى رءوس عظامها وأعيت وعريت عن اللحم وتقطعت السيور التي تشد بها نعالها إلى أرساغها بعد إعيائها. وجواب إذا في البيت الذي بعده.

24- فَلَهَا هِبابٌ فِي الزّمَام كَأنَّها … صَهْباءُ خَفَّ معَ الْجَنوبِ جَهامُها

الهباب: النشاط. الصبهاء: الحمراء، يريد كأنها سحابة صهباء، فحذف الموصوف. خَفَّ يخف خفوفًا: أسرع. الجهام: السحاب الذي قد أراق ماءه.

يقول: فلها في مثل هذه الحال نشاط في السير حال قود زمامها، فكأنها في سرعة سيرها سحابة حمراء قد ذهبت الجنوب بقطعها التي هراقت ماءها فانفردت عنها، وتلك أسرع ذهابًا من غيرها.

25- أوْ مُلْمِعٍ وَسَقَتْ لِأَحْقَبَ لاحَهُ … طَرْدُ الفُحُولِ وَضَرْبُهَا وكِدامُها

ألمعت الأتان فهي ملمع: أشرق طبياها باللبن. وسقت: حملت، تسق وسقاً. الأحقب: العير الذي في وركيه بياض أو في خاصرتيه. لاحه ولوَّحه غيَّره. ويروى: طرد الفحولة ضربها وعذامها؛ الفحول والفحولة والفِحال والفِحالة: جموع فحل. الكدام: يجوز أن يكون بمنزلة الكدم وهو العض، وأن يكون بمنزلة المكادمة وهي المعاضَّة. العذام: يجوز أن يكون بمنزلة العذم وهو العض، وأن يكون بمنزلة المعاذمة وهي المعاضّة.

يقول: كأنها صهباء أو أتان أشرقت أطباؤها باللبن وقد حملت تولبًا1 لفحل أحقب قد غيّر وهزل ذلك الفحل طرده الفحول وضربه إياها وعضه، أو طرد الفحول وضربها وعضها إياه. وتلخيص المعنى: أنها تشبه في شدة سيرها هذه السحابة أو هذه الأتان التي حملت تولبًا لمثل هذا الفحل الشديد الغيرة عليها، فهو يسوقها سوقًا عنيفاً.

26- يَعْلُو بِهَا حَدَبَ الإكامِ مُسَحّجٌ … قَدْ رَابَهُ عِصْيَانُهَا وَوِحامُها

الإكام: جمع أكم، وكذلك الآكام والأكم جمع أكمة، ويجمع الآكام على الأُكُم. حدبها: ما احدودب منها. السحج: القشر والخدش العنيف، والتسحيج مبالغة السّحج: الوِحَام والوحم والوَحَام: اشتهاء الحبلى الشيء، والفعل وحِمت توحَم وتاحَم وتَيْحَم، وهذا القياس مطَّرد في فعِل يفعَل من معتل الفاء.

يقول: يعلي هذا الفحل الأتان والإكام إتعابًا لها وإبعادًا بها عن الفحول وقد شككه في أمرها عصيانها إياه في حال حملها واشتهاؤها إياه قبله. والمسحج: العير المعضَّض.

27- بأحِزَّةِ الثَّلَبُوتِ يَرْبَأ فَوْقَهَا … قَفْرَ الْمَرَاقِبِ خَوْفُهَا آرامُها

الأحزة: جمع حزيز وهو مثل القُفِّ. ثلبوت: موضع بعينه. ربأت القوم وربأت لهم أربأ ربْأ: كنت ربيئة لهم. القفر: الخالي، الجمع القفار. المراقب: جمع مرقبة وهو الموضع الذي يقوم عليه الرقيب، ويريد بالمراقب الأماكن المرتفعة. الآرام: أعلام الطريق، الواحد إِرَم.

يقول: يعلو العير بالأتان الإكام في قفاف هذا الموضع، ويكون رقيبًا لها فوقها في موضع خالي الأماكن المرتفعة، وإنما يخاف أعلامها، أي يخاف استتار الصيادين

بأعلامها، وتلخيص المعنى: أنهما بهذا الموضع والعير يعلو إكامه لينظر إلى أعلامها هل يرى صائدًا استتر بعلم منها يريد أن يرميها.

28- حَتّى إِذا سَلَخا جُمادى سِتَّةً … جَزْءً فَطالَ صِيامُهُ وَصِيامُها

سلخت الشهر وغيره أسلخه سلخًا: مرّ علي، وانسلخ الشهر نفسه. جمادى: اسم للشتاء، سمي بها لجمود الماء فيه ومنه قول الشاعر:

في ليلة من جمادى ذات أندية … لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

أي من الشتاء: جَزَأَ الوحش يجزَأ جَزْءًا: اكتفى بالرطب عن الماء. الصيام: الإمساك في كلام العرب، ومنه الصوم المعروف؛ لأنه إمساك عن المفطرات.

يقول: أقاما بالثلبوت حتى مر عليهما الشتاء ستة أشهر وجاء الربيع فاكتفيا بالرطب عن الماء وطال إمساك العير وإمساك الأتان عنه، وستة بدل من جمادى لذلك نصبها، وأراد ستة أشهر فحذف أشهرًا لدلالة الكلام عليه.

29- رَجَعا بِأَمرِهِما إِلى ذي مِرَّةٍ … حَصِدٍ وَنُجْحُ صَريمَةٍ إِبرامُها

الباء في بأمرهما زائدة إن جعلت رجعا من الرّجع، أي رجعا أمرهما أي أسنداه، وإن جعلته من الرجوع كانت الباء للتعدية. المرة: القوة، والجمع المرر، وأصلها قوة الفتل، والإمرار إحكام الفتل. الحصِد: المحكم، والفعل حصِد يحصَد، وقد أحصدت الشيء أحكمته. النجح والنجاح. حصول المراد. الصريمة: العزيمة التي صرمها صاحبها عن سائر عزائمه بالجد في إمضائها. والجمع الصرائم. الإبرام: الإحكام.

يقول: أسند العير والأتان أمرهما إلى عزم أو رأي محكم ذي قوة وهو عزم العير على الورود أو رأيه فيه، ثم قال: وإنما يحصل المرام بإحكام العزم.

30- وَرَمَى دَوَابِرَهَا السَّفَا وَتَهَيّجَتْ … رِيحُ الْمَصَايِفِ سَوْمُهَا وَسَهامُها

الدوابر: مآخير الحوافر، السفا: شوك البهمى وهو ضرب من الشوك. هاج الشيء يهيج هيجاناً واهتاج اهتياجَاً وتَهَيَّج تهيجًا: تحرك ونشأ، وهِجْته هَيْجًا وهيجته تهييجًا. المصايف: جمع المصيف وهو الصيف. السوم: المرور، والفعل سام يسوم، السَّهام: شدة الحر.  

يقول: وأصاب شوك البهمى مآخير حوافرها، وتحركت ريح الصيف مرورها وشدة حرها، يشير بهذا إلى انقضاء الربيع ومجيء الصيف واحتياجهما إلى ورود الماء.

31- فَتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظِلَالُهُ … كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا

التنازع: مثل التجاذب. السَّبْط: الممتد الطويل، كدخان مشعلة أي نار مشعلة، فحذف الموصوف. شبُّ النار وإشعالها واحد. والفعل منه شبّ يشُب. الضرام: دقائق الحطب، واحدها ضَرَم وواحد الضرم ضَرَمة، وقد ضرمت النار واضطرمت وتضرّمت التهبت، وأضرمتها وضرمتها أنا. سبطاً أي غباراً سبطاً فحذف الموصوف.

يقول: فتجاذب العير، والأتان في عدوهما نحو الماء غباراً ممتدًا طويلًا كدخان نار موقدة تشعل النار في دقاق حطبها، وتلخيص المعنى: أنه جعل الغبار الساطع بينهما بعدوهما كثوب يتجاذبانه، ثم شبهه في كثافته وظلمته بدخان نار موقدة.

32- مَشمولَةٍ غُلِثَتْ بِنابِتِ عَرْفَجٍ … كَدُخانِ نارٍ ساطِعٍ أَسنامُها

مشمولة: هبت عليها ريح الشمال، وقد شمل الشيء أصابته ريح الشمال. الغلت، والعلث: الخلط، والفعل غلث يغلث، بالغين والعين جميعًا. النابت: الغض؛ ومنه قول الشاعر:

ووطئتنا وطأً على حنق … وطء المقيد نابت الْهَرْمِ

أي غضّه: العرفج: ضرب من الشجر، ويروى: عُلِيت بنابت، أي: وضع فوقها. الأسنام: جمع سنام، ويروى: بثابت أسنامها، وهو الارتفاع والرفع جميعاَ.

يقول: هذه النار قد أصابتها الشّمال وقد خلطت بالحطب اليابس والرطب الغض كدخان نار قد ارتفع أعاليها، وسنام الشيء أعلاه، شبه الغبار الساطع من قوائم العير والأتان بنار أوقدت بحطب يابس تسرع فيه النار وحطب غض، وجعلها كذلك ليكون دخانها أكثف فيشبه الغبار الكثيف، ثم جعل هذا الدخان الذي شبه الغبار به كدخان نار قد سطع أعاليها في الاضطرام والالتهاب ليكون دخانه أكثر، وجرّ مشمولة، لأنه صفة لمشعلة، وقوله: كدخان نار ساطع أسنامها، صفة أيضًا، إلا أنه كرر قوله كدخان لتفخيم الشأن وتعظيم القصة، كنظائره، من مثل:

أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه

وهو أكثر من أن يحصى.

33- فَمَضى وَقَدَّمَها وَكانَت عادَةً … مِنهُ إِذا هِيَ عَرَّدَتْ إِقدامُها

التعريد: التأخير والجبن: الإقدام هنا بمعنى التقدمة لذلك أنث فعلها فقال: وكانت، أي وكانت تقدمة الأتان عادة من العير، وهذا مثل قول الشاعر:

غفرنا وكانت من سجيتنا الغَفْر

أي: وكانت المغفرة من سجيتنا، وقال رويشد بن كثير الطائي:

يا أيها الراكب المزجي مطيته … سائل بني أسد ما هذه الصوت

أي: ما هذه الاستغاثة؛ لأن الصوت مذكر.

يقول: فمضى العير نحو الماء وقدم الأتان لئلا تتأخر، وكانت تقدمة الأتان عادة من العير إذا تأخرت هي، أي خاف العير تأخيرها.

34- فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعا … مَسجورَةً مُتَجاوِرًا قُلّامُها

العرض: الناحية. السري: النهر الصغير، والجمع الأسرية. التصديع: التشقيق. السجر: الملء، أي عينًا مسجورة، فحذف الموصوف لما دلت عليه الصفة. القلام: ضرب من النبت.

يقول: فتوسط العير والأتان جانب النهر الصغير وشقَّا عينًا مملوءة ماء قد تجاور قُلّامُها، أي: قد كثر هذا الضرب من النبت عليها؛ وتحرير المعنى: أنهما قد وردا عينًا ممتلئة ماء فدخلا فيها من عرض نهرها، وقد تجاوز نبتها.

35- مَحفوفَةً وَسطَ اليَراعِ يُظِلُّها … مِنهُ مُصَرَّعُ غابَةٍ وَقِيامُها

اليراع: القصب. الغابة: الأجمة، والجمع الغاب، الْمُصَرَّع: مبالغة المصروع. القيام: جمع قائم.

يقول: قد شَقّا عينًا قد حفت بضروب النبت والقصب، فهي وسط القصب يظلها من القصب ما صرع من غابتها وما قام منها، يريد أنها في ظل قصب بعضه مصرّع وبعضه قائم. 

 36- أَفَتِلكَ أَم وَحشِيَّةٌ مَسبوعَةٌ … خَذَلَت وَهادِيَةُ الصِّوارِ قِوامُها

مسبوعة أي: قد أصباها السبع بافتراس ولدها. الهادية: المتقدمة والمتقدم أيضًا، فتكون التاء إذن للمبالغة، الصُّوار والصِّوار والصيار: القطيع من بقر الوحش، والجمع الصيران. قوام الشيء: ما يقوم به هو.

يقول: أفتلك الأتان المذكورة تشبه ناقتي في الإسراع في السير أم بقرة وحشية قد افترس السبع ولدها حين خذلته وذهبت ترعى مع صواحبها، وقوام أمرها الفحل الذي يتقدم القطيع من بقر الوحش؛ وتحرير المعنى: أناقتي تشبه تلك الأتان أو هذه البقرة التي خذلت ولدها وذهبت ترعى مع صواحبها وجعلت هادية الصوار قوام أمرها، فافترست السباع ولدها فأسرعت في السير طالبة لولدها.

37- خَنساءُ ضَيَّعَتِ الفَريرَ فَلَم يَرِمْ … عُرضَ الشَقائِقِ طَوفُها وَبُغَامُها

الخنس: تأخر في الأرنبة. الفرير: ولد البقرة الوحشية، والجمع فُرار على غير قياس. الرَيم: البراح، والفعل رام يريم، العرض: الناحية. الشقائق: جمع شقيقة وهي أرض صلبة بين رملتين. البغام: صوت رقيق.

يقول: هذه الوحشية قد تأخرت أرنبتها والبقر كلها خُنْسٌ وقد ضيعت ولدها، أي خذلته حتى افترسته السباع فذلك تضييعها إياه. ثم قال: ولم يبرح طوفها وخوارها نواحي الأرضين الصلبة في طلبه؛ وتحرير المعنى: ضيعته حتى صادته السباع فطلبته طائفة وصائحة فيما بين الرمال.

38- لِمُعَفَّرٍ قَهدٍ تَنازَعَ شِلوَهُ … غُبسٌ كَواسِبُ لا يُمَنُّ طَعامُها

العفو والتعفير: الإلقاء على العَفْر والعَفَر وهما أديم الأرض. القهد: الأبيض. التنازع: التجاذب. الشلو: العضو، وقيل هو بقية الجسد، والجمع الأشلاء. الغبس جمع أغبس وغبساء. والغبسة: لون كلون الرماد. المن: القطع والفعل مَنَّ يَمُنّ، ومنه قوله تعالى: "لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون". ومنه سمي الغبار منينًا لانقطاع بعض أجزائه عن بعض، والدهر والمنية منونًا لقطعهما أعمار الناس وغيرهما. 

يقول: هي تطوف وتبغم لأجل جؤذر ملقى على الأرض أبيض، قد تجاذبت أعضاءه ذئاب أو كلاب غبس لا يقطع طعامها، أي لا تفتر في الاصطياد فينقطع طعامها، هذا إذا جعلت غبسًا من صفة الذئاب، وإن جعلتها من صفة الكلاب فمعناه: لا يقطع أصحابها طعامها؛ وتحرير المعنى: أنها تجد في الطلب لأجل فقدها ولدًا قد ألقي على أديم الأرض وافترسته كلاب أو ذئاب صوائد قد اعتادت الاصطياد، وبقر الوحش بيض ما خلا أوجهها وأكارعها، لذلك قال قهد. الكسب: الصيد في البيت.

39- صادَفنَ مِنها غِرَّةً فَأَصَبنَها … إِنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها

الغرة: الغفلة. الطيش: الانحراف والعدول.

يقول: صادفت الكلاب والذئاب غفلة من البقرة فأصبن تلك الغفلة أو تلك البقرة بافتراس ولدها، أي: وجدتها غافلة عن ولدها فاصطادته، ثم قال: وإن الموت لا تطيش سهامه، أي لا مخلص من هجومه، واستعار له سهامًا واستعار للأخطاء لفظ الطيش؛ لأن السهم إذا أخطأ الهدف فقد طاش عنه.

40- باتَت وَأَسبَلَ واكِفٌ مِن دِيمَةٍ … يُروي الخَمائِلَ دائِمًا تَسجامُها

الوكْف والوكفان واحد، والفعل منهما، وكَف يكف أي قطر. الديمة: مطرة تدوم وأقلها نصف يوم وليلة، والجمع الدّيم، وقد دومت السحابة إذا كان مطرها ديمة، وأصل ديمة دومة فقلبت الواو لانكسار ما قبلها. ثم قلبت في الدِّيَم حملًا على القلب في الواحد. الخمائل: جمع خميلة وهي كل رملة ذات نبت عند الأكثر من الأئمة، وقال جماعة منهم: هي أرض ذات شجر: التَّسجام: في معنى السجم أو السجوم، يقال: سجمَ الدمع وغيره يسجمه سجمًا، فسجم هو يسجم سجومًا أي صبّه فانصب.

يقول: باتت البقرة عند فقدها ولدها وقد أسبل مطر واكف من مطر دائم يروي الرمال المنبتة والأرضين التي بها أشجار في حال دوام سكبها الماء، أي باتت في مطر دائم الهطلان؛ وواكف يجوز أن يكون صفة مطر ويجوز أن يكون صفة سحاب.

41- يَعلو طَريقَةَ مَتنِها مُتَواتِرٌ … في لَيلَةٍ كَفَرَ النُجومَ غَمامُها

طريقة المتن: خطّ من ذنبها إلى عنقها. الكفر: التغطية والستر.

يقول: يعلو صلبها قطر متواتر في ليلة ستر غمامها نجومها.

42- تَجتافُ أَصلاً قالِصاً مُتَنَبِّذاً … بِعُجُوبِ أَنقاءٍ يَميلُ هُيامُها

الاجتياف: الدخول في جوف الشيء، ويروى تجتاب، بالباء أي تلبس. النبيذ: التنحي من النّبذة والنُّبذة من الناحية. العجب: أصل الذَّنَب، والمجمع والعجوب فاستعاره لأصل النقا، والنقا: الكثيب من الرمل، والتثنية نقوان ونقيان، والجموع أنقاء. الْهُيام: ما لا تماسك به من الرمل، وأصله من هام يهيم.

يقول: وقد دخلت البقرة الوحشية في جوف أصل شجرة متنحٍّ عن سائر الشجر، وقد قلصت أغصانها. وذلك الشجر في أصول كثبان من الرمل يميل ما لا يتماسك منها عليها لهطلان المطر وهبوب الريح؛ وتحرير المعنى: أنها تستتر من البرد والمطر بأغصان الشجر، ولا تقيها البرد والمطر لتقلصها وتنهال كثبان الرمل عليها مع ذلك.

43- وَتُضيءُ في وَجهِ الظَلامُ مُنيرَةً … كَجُمانَةِ البَحرِيِّ سُلَّ نِظامُها

الإضاءة والإنارة: يتعدى فعلهما ويلزم، وهما لازمان في البيت؛ وجه الظلام: أوله وكذلك وجه النهار. الجمان والجمانة: درة مصوغة من الفضة، ثم يستعاران للدرة، وأصله فارسي معرب وهو كمانة.

يقول: وتضيء هذه البقرة في أول ظلام الليل كدرة الصدف البحري أو الرجل البحري حين سُلّ النظام منها، شبه البقرة في تلألؤ لونها بالدرة، وإنما خص ما يسل نظامها إشارة إلى أنها تعدو ولا تستقر كما تتحرك وتنتقل الدرة التي سلّ نظامها، وإنما شبهها بها لأنها بيضاء متلألئة ما خلا أكارعها ووجهها.

44- حَتّى إِذا اِنحَسَرَ الظَلامُ وَأَسفَرَت … بَكَرَت تَزِلُّ عَنِ الثَرى أَزلامُها

الانحسار: الانكشاف والانجلاء. الإسفار: الإضاءة إذا لزم فعلها الفاعل، والأزلام: قوائمها، وجعلها أزلامًا لاستوائها، ومنه سميت القداح أزلامًا، والتزليم التسوية، وواحد الأزلام زَلَم وزُلَم، والزَّلمة والزُّلمة والقد، ومنه قولهم: هو العبد زَلَمة وزُلَمة، أي: قدّه قدّ العبد يقول: حتى إذا انكشف وانجلى ظلام الليل وأضاء، بكرت البقرة من مأواها، فنزلت قوائمها عن التراب الندي لكثرة المطر الذي أصابه ليلاً.

45- عَلِهَت تَرَدَّدُ في نِهاءِ صَعائِدٍ … سَبعاً تُؤاماً كامِلاً أَيّامُها

العله والهلع: الانهماك في الجزع والضجر، ويروى تبلد، أي: تتحير وتتعمه، النهاء جمع نَهْي ونِهْي، بفتح النون وكسرها: وهما الغدير، وكذلك الأنهاء. صعائد: موضع بعينه. التؤام: جمع توأم.

يقول: أمنعت في الجزع وترددت متحيرة في وهاد هذا الموضع ومواضع غدرانه سبع ليال تؤام للأيام وقد كملت أيام تلك الليالي، أي ترددت في طلب ولدها سبع ليال بأيامها، وجعل أيامها كاملة إشارة إلى أنها كانت من أيام الصيف وشهور الحر.

46- حَتّى إِذا يَئِسَت وَأَسحَقَ حالِقٌ … لَم يُبلِهِ إِرضاعُها وَفِطامُها

الإسحاق: الإخلاق، والسَّحْق الْخَلَق، الحالق: الضرع الممتلئ لبناً.

يقول: حتى إذا يئست البقرة من ولدها، وصار ضرعها الممتلئ لبنًا خلقًا لانقطاع لبنها، ثم قال: ولم يبل ضرعها إرضاعها ولدها ولا فطامها إياه وإنما أبلاه فقدها إياه.

47- فَتَوَجَّسَت رِزَّ الأَنيسِ فَراعَها … عَن ظَهرِ غَيبٍ وَالأَنيسُ سَقامُها

الرِزّ: الصوت الخفي. الأنيس والإنس والأناس والناس واحد. راعها: أفزعها. السقام والسقم واحد. والفعل سقِم يسقَم، والنعت سقيم، وكذلك النعت مما كان من أفعال فَعِل يفعَل من الأدواء والعلل نحو مريض.

يقول: فتسمعت البقرة صوت الناس فأفزعها ذلك وإنما سمعته عن ظهر غيب، أي لم تَرَ الأنيس، ثم قال: والناس سقام الوحش وداؤها؛ لأنهم يصيدونها وينقصون منها نقص السقم من الجسد؛ وتحرير المعنى: أنَّها سمعت صوتًا ولم تَرَ صاحبه فخافت ولا غرو أن تخاف عند سماعها صوت الناس؛ لأن الناس يبيدونها ويهلكونها، والتقدير: فتسمعت رِزّ الأنيس عن ظهر غيب فراعها والأنيس سقامها.

48- فَغَدَت كِلا الفَرجَينِ تَحسَبُ أَنَّهُ … مَوْلَى المَخافَةِ خَلْفُها وَأَمامُها

الفرج: موضع المخافة، والفرج ما بين قوائم الدواب، فما بين اليدين فرج، وما بين الرجلين فرج والجمع فروج، وقال ثعلب: إنّ المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء، كقوله تعالى: "مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ". أي أولى بكم.

يقول: فغدت البقرة وهي تحسب أن كلا فرجيها مولى المخافة، أي موضعها وصاحبها، أن تحسب أن كل فرج من فرجيها هو الأولى بالمخافة منه، أي بأن يخاف منه، وتحرير المعنى: أنها لم تقف على أن صاحب الرِزّ خلفها أم أمامها، فغدت فزعة مذعورة لا تعرف منجاها من مهلكها، وقال الأصمعي: أراد بالمخافة الكلاب وبمولاها صاحبها، أي غدت وهي لا تعرف أن الكلاب والكلّاب خلفها أو أمامها فهي تظن كل جهة من الجهتين موضعًا للكلاب والكَلّاب، والضمير الذي هو اسم إن عائد إلى كلا، وهو مفرد اللفظ وإن كان يتضمن معنى التثنية، ويجوز حمل الكلام بعده على لفظه مرة وعلى معناه أخرى، والحمل على اللفظ أكثر، وتمثيلها، كلا أخويك سبني وكلا أخويك سبّاني؛ وقال الشاعر:

كلاهما حين جد الجري بينهما … قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

حمل أقلعا معنى كلا وحمل رابيًا على لفظه، وقال الله عز وجل: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا". حملًا على لفظ كلتا، ونظير كلا وكلتا في هذين الحكمين كلّ؛ لأنه مفرد اللفظ وإن كان معناه جمعًا، ويحمل الكلام بعده على لفظه ومعناه، وكلاهما كثير، قال الله تعالى: "وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ". فهذا محمول على المعنى وقال تعالى: "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا.، وهذا محمول على اللفظ. ومولى المخافة في محل الرفع؛ لأنه خبر أنّ، وخلفها وأمامها خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خلفها وأمامها، ويكون تفسير كلا الفرجين، ويجوز أن يكون بدلاً من كلا الفرجين وتقديره، فغدت كلا الفرجين خلفها وأمامها تحسب أنه مولى المخافة.

49- حَتّى إِذا يَئِسَ الرُماةُ وَأَرْسَلوا … غُضْفًا دَواجِنَ قافِلًا أَعْصَامُها

الغضف من الكلاب: المسترخية الآذان، والغضف: استرخاء الأذن، يقال: كلب أغضف وكلبة غضفاء، وهو مستعمل في غير الكلاب استعماله فيها. الدَّواجن

المعلّمات. القفول: اليبس. أعصامها: بطونها وقيل: بل سواجيرها وهي قلائدها من الحديد والجلود وغير ذلك.

يقول: حتى إذا يئس الرماة من البقرة وعلموا أن سهامهم لا تنالها، أرسلوا كلابًا مسترخية الآذان معلمة ضوامر البطون أو يابسة السواجير.

50- فَلَحِقْنَ وَاعتَكَرَت لَها مَدَرِيَّةٌ … كَالسَّمْهَرِيَّةِ حَدُّها وَتَمامُها

عكر واعتكر أي عطف. المدرية: طرف قرنها. السمهرية من الرماح: منسوبة إلى سمهر، رجل كان بقرية تسمى خطا من قرى البحرين وكان مثقفًا فنسب إليه الرماح الجيدة.

يقول: فلحقت الكلاب البقرة وعطفت عليها، ولها قرن يشبه الرماح في حدتها وتمام طولها، أي أقبلت البقرة على الكلاب وطعنتها بهذا القرن الذي هو كالرماح.

51- لِتَذودَهُنَّ وَأَيقَنَت إِن لَم تَذُدْ … أَن قَد أَحَمَّ مَعَ الْحُتوفِ حِمامُها

الذّود: الكفّ والردّ. الإحمام والإجمام: القرب. الحتف: قضاء الموت، وقد يسمى الهلاك حتفًا. الحمام: تقدير الموت يقال حُمَّ كذا أي قدر.

يقول: عطفت البقرة وكرّت لترد وتطرد الكلاب عن نفسها، وأيقنت أنها إن لم تذدها قرب موتها من جملة حتوف الحيوان، أي أيقنت إن لم تطرد الكلاب قتلتها الكلاب.

52- فَتَقَصَّدَت مِنها كَسَابِ فَضُرِّجَت … بِدَمٍ وَغودِرَ في المَكَرِّ سُخَامُها

أقصد وتقصّد: قتل. كساب، مبنية على الكسرة: اسم كلبة، وكذلك سخام وقد روي بالحاء المهملة.

يقول: فقتلت البقرة كساب من جملة تلك الكلاب فحمّرتها بالدم وتركت سخامًا في موضع كَرّها صريعة، أي قتلت هاتين الكلبتين، التضريج: التحمير بالدم، ضرجته فتضرج، ويريد بالْمَكرّ موضع كَرّها.

53- فَبِتِلكَ إِذ رَقَصَ اللَوامِعُ بِالضُّحى … وَاجْتَابَ أَردِيَةَ السَّرابِ إِكامُها

يقول: فبتلك الناقة إذ رقصت لوامع السراب بالضحى، أي تحركت ولبست الإكام أردية من السراب؛ وتحرير المعنى: فبتلك الناقة التي أشبهت البقرة والأتان أقضى حوائجي في الهواجر، ورقص لوامع السراب ولبس الإكام أرديته كناية عن احتدام الهواجر.

54- أَقْضِي اللُّبانَةَ لا أُفَرِّطُ ريبَةً … أَو أَن يَلومَ بِحاجَةٍ لُوَّامُها

اللبانة: الحاجة. التفريط التضييع وتقدمة العجز. الريبة: التهمة، واللوَّام: مبالغة اللائم، واللوّام جمع اللائم.

يقول: بركوب هذه الناقة وإتعابها في حر الهواجر أقضي وطري، ولا أفرط في طلب بغيتي، ولا أدع ريبة إلا أن يلومني لائم، وتحرير المعنى: أنه لا يقصر ولكن لا يمكنه الاحتراز عن لوم اللوّام إياه، وأو في قوله: أو أن يلوم، بمعنى إلا، ومثله قولهم: لألزمه أو يعطيني حقي، أي إلا أن يعطيني حقي، وقال امرؤ القيس:

فقلت له لا تبك عينك إنما … نحاول ملكًا أو نموتَ فنعذرا

أي: إلا أن نموت

55- أَوَلَم تَكُن تَدري نَوارُ بِأَنَّني … وَصَّالُ عَقْدِ حَبائِلٍ جَذَّامُها

الحبائل: جمع الحبالة وهي مستعارة للعهد والمودة هنا. الجذم: القطع، والفعل جذم يجذم، والجذام مبالغة الجاذم. ثم رجع إلى التشبيب. بالعشيقة فقال: أو لم تكن تعلم نوار أنني وصال عقد العهود والمودات وقطّاعها، يريد أنه يصل من استحق الصلة ويقطع من استحق القطيعة.

56- تَرّاكُ أَمكِنَةٍ إِذا لَم أَرضَها … أَو يَعتَلِق بَعضَ النُفوسِ حِمامُها

يقول: إني ترّاك أماكن إذا لم أرضها إلا أن يرتبط نفسي حمامها فلا يمكنها البراح، وأراد ببعض النفوس هنا نفسه، هذا أوجه الأقوال وأحسنها، ومن جعل بعض النفوس، بمعنى كلّ النفوس فقد أخطأ؛ لأنَّ بعضًا لا يفيد العموم والاستيعاب، وتحرير المعنى: إني لا أترك الأماكن التي أجتويها، وأقلوها إلا أن أموت.

57- بَل أَنتِ لا تَدرينَ كَم مِن لَيلَةٍ … طَلْقٍ لَذيذٍ لَهوُها وَنِدامُها

ليلة طلق وطلقة: ساكنة لا حر فيها ولا وقر. الندام: جمع نديم مثل الكرام في جمع كريم، والندام أيضًا المنادمة مثل الجدال والمجادلة، والندام في البيت يحتمل الوجهين. أضرب عن الإخبار للمخاطبة فقال: بل أنت يا نوار لا تعلمين كم من ليلة ساكنة غير مؤذية بحر ولا برد لذيذة اللهو والندماء والمنادمة. وتحرير المعنى: بل أنت تجهلين كثرة الليالي التي طابت لي واستلذذت لهوي وندماني فيها أو منادمتي الكرام فيها.

58- قَد بِتُّ سامِرَها وَغايَةِ تاجِرٍ … وافَيتُ إِذ رُفِعَت وَعَزَّ مُدامُها

الغاية: راية ينصبها الخمّار ليعرف مكانه، وأراد بالتاجر الخمار. وافيت المكان: أتيته. المدام والمدامة: الخمر، سميت بها لأنَّها قد أديمت في دَنّها.

يقول: قد بت محدث تلك الليلة، أي كنت سامرًا ندمائي ومحدثهم فيها، ورب راية خَمّار أتيتها حين رفعت ونصبت وغلت خمرها وقل وجودها، يتمدح بكونه لسان أصحابه وبكونه جوادًا لاشترائه الخمر غالية لندمائه.

59- أُغلي السِّباءَ بِكُلِّ أَدكَنَ عاتِقٍ … أَو جَونَةٍ قُدِحَت وَفُضَّ خِتامُها

سبأت الخمر أسبؤها سبأ وسباء: اشتريتها. أغليت الشيء: اشتريته غاليًا وصيرته غالياً ووجدته غاليًا. الأدكن: الذي فيه دكنة كالخز الأدكن، أراد بكل زقّ أدكن. الجونة: السوداء، أراد أو خابية سوداء قدحت. القدح: الغرف. الفض: الكسر. الخاتَم والخاتِم والخاتام والخيتام والختام واحد.

يقول: أشتري الخمر غالية السعر باشتراء كل زقّ أدكن أو خابية سوداء قد فض ختامها واغترف منها، وتحرير المعنى: أشتري الخمر للندماء عند غلاء السعر وأشتري كل زق مقيّر1 أو خابية مقيّرة، وإنما قيّرا لئلا يرشحا بما فيهما، ويسرع صلاحه وانتهاؤه منتهى إداركه وقوله: قدحت وفض ختامها فيه، تقديم تقديره: فض ختامها وقدحت؛ لأنه ما لم يكسر ختامها لا يمكن اغتراف ما فيها من الخمر.

60- وَصَبوحِ صافِيَةٍ وَجَذبِ كَرينَةٍ … بِمُوَتَّرٍ تَأتالُهُ إِبهامُها

الكرينة: الجارية العوادة، والجمع الكرائن. الائتيال: المعالجة. أراد بالْمُوَتَّر العود.

يقول: وكم من صبوح خمر صافية، وجذب عوادة عودًا موترًا تعالجه إبهام العوادة؛ وتحرير المعنى: كم من صبوح من خمر صافية استمتعت باصطباحها وضرب عوّادة عودها استمتعت بالإصغاء إلى أغانيها.

61- باكَرْتُ حاجَتَها الدَّجاجَ بِسُحرَةٍ … لِأُعَلَّ مِنها حينَ هَبَّ نِيامُها

يقول: باكرت الديوك لحاجتي إلى الخمر، أي تعاطيت شربها قبل أن يصدح الديك، لأسقى منها مرة بعد أخرى حين استيقظ نيام السحرة، والسحرة والسحر بمعنى، والدجاج اسم للجنس يعم ذكوره وإناثه، والواحد دجاجة، وجمع الدجاج دُجُج، والدِّجاج، بكسر الدال، لغة غير مختارة؛ وتحرير المعنى: باكرت صياح الديك لأسقى من الخمر سقياً متتابعاً.

62- وَغَداةِ ريحٍ قَد وَزَعتُ وَقَرَّةٍ … إِذ أَصبَحَت بِيَدِ الشّمالِ زِمامُها

القرة والقر: البرد.

يقول: كم من غداة تهب فيها الشّمال وهي أبرد الرياح، وبرد قد ملكت الشمال زمامه قد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم؛ وتحرير المعنى: وكم من برد كففت غرب عاديته بإطعام الناس.

63- وَلَقَد حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحمُلُ شِكَّتي … فُرُطٌ وَشاحِيَ إِذ غَدَوتُ لِجامُها

الشكة: السلاح. الفرط: الفرس المتقدمة السريعة الخفيفة. الوشاح والإشاح بمعنى، والجمع الوشح.

يقول: ولقد حميت قبيلتي في حال حمل فرس متقدمة سريعة سلاحي ووشاحي لجامها إذا غدوت، يريد أنه يلقي لجام الفرس على عاتقه ويخرج منه يده حتى يصير بمنزلة الوشاح، يريد أنه يتوشح بلجامها لفرط الحاجة إليه حتى إذا ارتفع صراخ ألجم الفرس وركبها سريعًا، وتحرير المعنى: ولقد حميت قبيلتي وأنا على فرس أتوشح بلجامها إذا نزلت لأكون متهيئًا لركوبها.

64- فَعَلَوتُ مُرتَقِبًا عَلى ذي هَبْوَةٍ … حَرِجٍ إِلى أَعلامِهِنَّ قَتَامُها

المرتقب: المكان المرتفع الذي يقوم عليه الرقيب. الْهَبوة: الغبرة. الحرج: الضيق جدًّا. الأعلام الجبال والرايات. القَتام: الغبار.

يقول: فعلوت عند حماية الحي مكانًا عاليًا، أي كنت ربيئة لهم على ذي هبوة، أي على جبل ذي هبوة، وقد قرب قتام الهبوة إلى أعلام فرق الأعداء وقبائلهم، أي ربأت لهم على جبل قريب من جبال الأعداء ومن راياتهم.

65- حَتّى إِذا أَلقَت يَدًا في كافِرٍ … وَأَجَنَّ عَوراتِ الثُّغورِ ظَلامُها

الكافر: الليل، سمي به لكفره الأشياء أي: لستره، والكَفْر: السَّتر، والإجنان الستر أيضاً. الثغر: موضع المخافة والجمع الثغور، وعورته أشده مخافة.

يقول: حتى إذا ألقت الشمس يدها في الليل أي ابتدأت في الغروب، وعبر عن هذا المعنى بإلقاء اليد؛ لأن من ابتدأ بالشيء قبل ألقى يده فيه، وستر الظلام مواضع المخافة والضمير الذي بعد ظلامها للعورات؛ وتحرير المعنى: حتى إذا غربت الشمس وأظلم ليلها.

66- أَسْهَلْتُ وَانتَصَبَت كَجذْعِ مُنيفَةٍ … جَرداءَ يَحصَرُ دونَها جُرّامُها

أسهل: أتى السهل من الأرض. المنيفة: العالية الطويلة. الجرداء: القليلة السعف والليف، مستعارة من الجرداء من الخيل. الحصر: ضيق الصدر، والفعل حَصِرَ يحصَر. الجرّام: جمع الجارم وهو الذي يجرم النخل أي: يقطع حمله.

يقول: لَمّا غربت الشمس وأظلم الليل نزلت من المرقب وأتيت مكاناً سهلاً

وانتصبت الفرس، أي رفعت عنقها، كجذع نخلة طويلة عالية تضيق صدور الذين يريدون قطع حملها لعجزهم وضعفهم عن ارتقائها، شبه عنقها في الطول بمثل هذه النخلة وقوله: كجذع منيفة، أي: كجذع نخلة منيفة.

67- رَفَّعتُها طَرْدَ النّعامِ وَشَلَّهُ … حَتّى إِذا سَخِنَت وَخَفَّ عِظامُها

رفّعتها: مبالغة رفعت. الطَّرَد والطَّرْد بفتح الراء وتسكينها لغتان جديدتان، والشَّلُّ والشَّلَلُ الطرد أيضًا.

يقول: حملت فرسي وكلفتها عدوًا مثل عدو النعام، أو كلفتها عدوًا يصلح لاصطياد النعام، حتى إذا جدّت في الجري وخف عظامها في السير.

68- قَلِقَتْ رِحالَتُها وَأَسبَلَ نَحرُها … وَابتَلَّ مِن زَبَدِ الحَميمِ حِزامُها

القلق: سرعة الحركة. الرحال: شبه سرج يتخذ من جلود الغنم بأصوافها ليكون أخف في الطلب والهرب، والجمع الرحائل. أسبل: أمطر. الحميم: العرق.

يقول: اضطربت رحالتها على ظهرها من إسراعها في عدوها ومطر نحرها عرقًا وابتل حزامها من زبد عرقها، أي من عرقها.

69- تَرْقى وَتَطعَنُ في العِنانِ وَتَنتَحي … وِرْدَ الْحَمامَةِ إِذ أَجَدَّ حَمامُها

رقي يرقى رقيًّا: صعد وعلا. الانتحاء الاعتماد. الحمام: ذوات الأطواق من الطير، واحدتها حمامة، وتجمع الحمامة على الحمامات والحمائم أيضًا.

يقول: ترفع عنقها نشاطًا عدوها حتى كأنها تظعن بعنقها في عنانها وتعتمد في عدوها الذي يشبه ورد الحمامة حين جد الحمام التي هي في جملتها في الطيران لما ألح عليها من العطش، شبه سرعة عدوها بسرعة طيران الحمائم إذا كانت عشطى، وورد الحمامة نصب على المصدر من غير لفظ الفعل وهي ترقى أو تطعن أو تنتحي.

70 - وَكَثيرَةٍ غُرَبائُها مَجهولَةٍ … تُرجى نَوافِلُها وَيُخشى ذامُها

الذيم والذام: العيب.

يقول: ورب مقامة أو قبة أو دار كثرت غرباؤها وغاشيتها وجهلت، أي لا يعرف بعض الغرباء بعضًا، ترجى عطاياها ويخشى عيبها، يفتخر بالمناظرة التي جرت بينه وبين الربيع بن زياد في مجلس النعمان بن المنذر ملك العرب، ولها قصة طويلة؛ وتحرير المعنى: رب دار كثرت غاشيتها؛ لأن دور الملك يغشاها الوفود، وغرباؤها يجهل بعضها بعضًا، وترجى عطايا الملوك، وتخشى معايب تلحق في مجالسها.

71- غُلْبٍ تَشَذَّرُ بِالذُحولِ كَأَنَّها … جِنُّ البَدِيِّ رَواسِيًا أَقدامُها

الغُلب: الغلاظ الأعناق. التشذّر: التهدد. الذحول: الأحقاد، الواحد ذحل. البدي: موضع. الرواسي. الثوابت.

يقول: وهم رجال غلاظ الأعناق كالأسود، أي خلقوا خلقة الأسود، يهدد بعضهم بعضًا بسبب الأحقاد التي بينهم، ثم شبههم بجنّ هذا الموضع في ثباتهم في الخصام والجدال، يمدح خصومه، وكلما كان الخصم أقوى وأشد كان قاهره وغالبه أقوى وأشد.

72- أَنكَرتُ باطِلَها وَبُؤتُ بِحَقِّها … عِندي وَلَم يَفخَر عَلَيَّ كِرامُها

باء بكذا: أقرَّ به، ومنه قولهم في الدعاء: أبوء لك بالنعمة أي أُقِرّ.

يقول: أنكرت باطل دعاوى تلك الرجال الغلب وأقررت بما كان حقها منها عندي، أي في اعتقادي ولم يفخر عليّ كرامها، أي لم يغلبني بالفخر كرامها، من قولهم: فاخرته ففخرته، أي غلبته بالفخر وكان ينبغي أن يقول: ولم تفخرني كرامها، ولكنه ألحق عليّ حملًا على معنى: ولم يتعالَ عليّ ولم يتكبر عليَّ.

73- وَجَزورِ أَيسارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها … بِمَغالِقٍ مُتَشابِهٍ أَجسامُها

الأيسار: جمع يسر وهو صاحب الميسر. المغالق: سهام الميسر: سميت بها لأنَّ بها يغلق الخطر، من قولهم: غلق الرهن يغلق غلقاً، إذا لم يوجد له تخلص وفكاك.

يقول: ورب جزور أصحاب ميسر دعوت ندمائي لنحرها وعقرها بأزلام1 متشابهة الأجسام، وسهام الميسر يشبه بعضها بعضًا، وتحرير المعنى: ورب جزور أصحاب ميسر كانت تصلح لتقامر الأيسار عليها، دعوت ندمائي لهلاكها أي لنحرها بسهام متشابهة، قال الأئمة: يفتخر بنحره إياها من صلب ماله لا من كسب قماره، والأبيات التي بعده تدلّ عليه، وإنما أراد السهام ليقرع بها بين إبله أيها ينحر للندماء.

74- أَدعو بِهِنَّ لِعاقِرٍ أَو مُطفِلٍ … بُذِلَت لِجِيرانِ الجَميعِ لِحامُها

العاقر: التي لا تلد. المطفل التي معها ولدها. اللحام: جمع لحم.

يقول: أدعو بالقداح لنحر ناقة عاقر، أو ناقة مطفل تبذل لحومها لجميع الجيران، أي: إنما أطلب القداح لأنحر مثل هاتين، وذكر العاقر لأنها أسمن وذكر المطفل لأنها أنفس.

75- فَالضَيفُ وَالجارُ الجَنيبُ كَأَنَّما … هَبَطا تَبالَةَ مُخصِباً أَهضامُها

الجنيب: الغريب. تبالة: واد مخصب من أودية اليمن. الهضيم المطمئن من الأرض، والجمع الأهضام والهضوم.

يقول: فالأضياف والجيران الغرباء عندي كأنهم نازلون هذا الوادي في حال كثرة نبات أماكنه المطمئنة، شبه ضيفه وجاره في الخصب والسعة بنازل هذا الوادي أيام الربيع.

76- تَأوي إِلى الأَطنابِ كُلُّ رَذِيَّةٍ … مِثلُ البَلِيَّةِ قالِصٌ أَهدامُها

الأطناب: حبال البيت، واحدها طنب. الرذية: الناقة التي ترذي في السفر، أي تخلف لفرط هزالها وكلالها، والجمع الرذايا، استعارها للفقيرة. البلية: الناقة التي تشد على قبر صاحبها حتى تموت، والجمع البلايا. الأهدام: الأخلاق من الثياب، واحدها هدم. قلوصها: قصرها.

يقول: وتأوي إلى أطناب بيتي كل مسكينة ضعيفة قصيرة الأخلاق التي عليها لما

بها من الفقر والمسكنة، ثم شبهها بالبلية في قلة تصرفها وعجزها عن الكسب وامتناع الرزق منها.

77- وَيُكَلِّلونَ إِذا الرِياحُ تَناوَحَت … خُلُجًا تُمَدُّ شَوارِعًا أَيتامُها

تناوحت: تقابلت، ومنه قولهم: الجبلان متناوحان، أي متقابلان، ومنه النوائح لتقابلهن، الْخُلُج: جمع خليج وهو نهر صغير يخلج من نهر كبير أو من بحر، والْخَلْج: الجذب. تمد: تزداد. شرع في الماء: خاضه.

يقول: ونكلل للفقراء والمساكين والجيران إذا تقابلت الرياح، أي في كلب الشتاء واختلاف هبوب الرياح، جفافًا تحكي بكثرة مرقها أنهارًا يشرع أيتام المساكين فيها وقد كُلّلت بكسور اللحم، وتلخيص المعنى: ونبذل للمساكين والجيران جفانًا عظامًا مملوءة مرقاً مكلَّلة بكسور اللحم في كَلَب الشتاء وضنك المعيشة.

78- إِنّا إِذا اِلتَقَتِ المَجامِعُ لَم يَزَل … مِنّا لِزازُ عَظيمَةٍ جَشّامُها

رجل لزاز الخصوم، يصلح؛ لأن يلز بهم، أي: يقرن بهم ليقهرهم، ومنه لزاز الباب ولزاز الجدار.

يقول: إذا اجتمعت جماعات القبائل فلم يزل يسودهم رجل منا يقمع الخصوم عند الجدال، ويتجشم عظائم الخصام، أي لا تخلو المجامع من رجال منا يتحلّى بما ذكر من قمع الخصوم وتكلّف الخصام.

79- وَمُقَسِّمٌ يُعطي العَشيرَةَ حَقَّها … وَمُغَذْمِرٌ لِحُقوقِها هَضّامُها

التغذمر: والغذمرة: التغضب مع همهمة. الهضم: الكسر والظلم.

يقول: يقسم الغنائم، فيوفر على العشائر حقوقها ويتغضب عند إضاعة شيء من حقوقها ويهضم حقوق نفسه يريد أن السيد منا يوفر حقوق عشائره بالهضم من حقوق نفسه؛ قوله: ومغذمرة لحقوقها، أي لأجل حقوقها، هضامها أي هضام الحقوق التي تكون له، والكناية في هضّامها يجوز أن تكون عائدة على العشيرة أي هضّام الأعداء فيهم منا، أي هضامهم للأعداء منا، ويجوز أن تكون عائدة على الحقوق أي المغذمر لحقوق العشيرة والهضام لها منا، والسيد يملك أمور القوم جبرًا وهضمًا في أوقاتها على اختلافها، فإن أساءوا هضم حقهم وإن أحسنوا تغذمر لهم. 

80- فَضلاً وَذو كَرَمٍ يُعينُ عَلى النَّدى … سَمحٌ كَسوبُ رَغائِبٍ غَنّامُها

الندى: الجود والفعل ندي يندى ندىً، ورجل ند. الرغائب: جمع الرغيبة وهي ما رغب فيه من علق نفيس أو خصلة شريفة أو غيرهما. الغنّام: مبالغة الغانم.

يقول: يفعل ما سبق ذكره تفضلًا ولم يزل منا كريم يعين أصحابه على الكرم، أي يعطيهم ما يعطون، جواد يكسب رغائب المعالي ويغتنمها.

81- مِن مَعشَرٍ سَنَّت لَهُم آباؤُهُم … وَلِكُلِّ قَومٍ سُنَّةٌ وَإِمامُها

يقول: هو من قوم سَنّت لهم أسلافهم كسب رغائب المعالي واغتنامها، ثم قال: ولكل قوم سنّة وإمام سنّة يؤتم به فيها.

82- لا يَطْبَعونَ وَلا يَبورُ فَعالُهُم … إِذ لا يَميلُ مَعَ الْهَوَى أَحلامُها

الطبع: تدنّس العرض وتلطخه، والفعل طبع يطبع. البوار: الفساد والهلاك. الفعال: فعل الواحد جميلاً كان أو قبيحًا، كذا قال ثعلب والمبرد وابن الأنباري وابن الأعرابي.

يقول: لا تتدنس أعراضهم بعارِ ولا تفسد أفعالهم إذ لا تميل عقولهم مع أهوائهم.

83- فَاقْنَع بِما قَسَمَ الْمَليكُ فَإِنَّما … قَسَمَ الخَلائِقَ بَينَنا عَلّامُها

يقول: فاقنع أيها العدو بما قسم الله تعالى فإن قسام المعايش والخلائق علّامها، يريد أن الله تعالى قسم لكل ما استحقه من كمال ونقص ورفعة وضعة. والقَسْم مصدر قَسَم يَقْسِم، والقِسْم والقِسمة اسمان، وجمع القِسم أقسَام، وجمع القسمة قِسَم. الْمَلْك والْمَلِك، بسكون اللام وكسرها، والمليك واحد، وجمع الْمَلْك، بكسون اللام، ملوك، وجمع الْمَلِكْ، بكسر اللام أملاك.  

84- وَإِذا الأَمانَةُ قُسِّمَت في مَعشَرٍ … أَوفى بِأَوفَرِ حَظِّنا قَسّامُها

معشر: قوم. قسّم وقسَم. بالتشديد والتخفيف واحد. أوفى ووفّى. كمل ووفّر، ووفى يفي وفيًا كمل، والوفور الكثرة. بأوفر حظنا أي بأكثره.

يقول: وإذا قسمت الأمانات بين الأقوام وفر وكمل من الأمانة أي نصيبنا الأكثر منها، يريد أنهم الأقوام أمانة؛ والباء في قوله بأوفر زائدة أي: أوفى أوفر حظّنا.

85- فَبَنى لَنا بَيتًا رَفيعًا سَمكُهُ … فَسَما إِلَيهِ كَهْلُها وَغُلامُها

يقول: بنى الله تعالى بيت شرف ومجد عالي السقف فارتفع إلى ذلك الشرف كهل العشيرة وغلامها، يريد أن كهولهم وشبانهم يسمون إلى المعالي والمكارم. وإذا روي هذا البيت قبل "فاقنع"، كان المعنى، فبنى لنا سيدنا بيت مجد وشرف إلى آخر المعنى. 

86- وَهُمُ السُعاةُ إِذا العَشيرَةُ أُفظِعَتْ … وَهُمُ فَوارِسُها وَهُمْ حُكّامُها

السعاة: جمع الساعي. أفظعت: أصيب بأمر فظيع.

يقول: إذا أصاب العشيرة أمر عظيم سعوا بدفعه وكشفه، وهم فرسان العشيرة عند قتالها وحكامها عند تخاصمها، يريد رهطه الأدنين. 

87- وَهُمُ رَبيعٌ لِلمُجاوِرِ فيهُمُ … وَالْمُرمِلاتِ إِذا تَطاوَلَ عامُها

أرمل القوم: إذا نفدت أزوادهم.

يقول: هم لمن جاورهم ربيع لعموم نفعهم وإحيائهم إياه بجودهم كما يحيي الربيع الأرض؛ وتحرير المعنى: هم لمن جاورهم وللنساء اللواتي نفدت أزوادهن بمنزلة الربيع إذا تطاول عامها لسوء حالها لأن زمان الشدة يستطال.

88- وَهُمُ العَشيرَةُ أَن يُبَطِّئَ حاسِدٌ … أَو أَن يَميلَ مَعَ العَدُوِّ لِئامُها

قوله: أن يبطئ حاسد، معناه على قول البصريين: كراهية أن يبطئ حاسد وكراهية أن يميل، وعند الكوفيين، أن لا يبطئ حاسد وأن لا يميل، كقوله تعالى: "يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا". أي: كراهية أن تضلوا، أو يبين الله لكم أن لا كراهية أن يبطئ حاسد بعضهم عن نصر بعض أو كيلا يبطئ حاسد بعضهم عن نصر بعض وكراهية أن يميل لئام العشيرة وأخساؤها مع العدو، أي أن يظاهر الأعداء على الأقرباء؛ وتحرير المعنى: أنهم يتوافقون ويتعاضدون كراهية أن يبطئ الحساد بعضهم عن نصر بعض وميل لئامهم إلى الأعداء أو مظاهرتهم إياهم على الأقارب. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عزيزي الزائر:
أهلاً وسهلاً بك اكتب ملاحظاتك أو سؤالك أو راسلنا على صفحة النحو والصرف:
https://www.facebook.com/arabicgrammar1255/

جميع الحقوق محفوظه © الإشراق1

تصميم الورشه