شرح معلقة زهير بن أبي سلمى للزوزني

شرح ‌‌معلقة زهير بن أبي سُلمى للزوزني

1- أمِنْ أُمّ أوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكَلّمِ ... بِحَوْمَانَةِ الدّرّاجِ فالْمُتَثَلَّمِ

الدّمنة: ما اسوّد من آثار الدار بالبعر والرماد وغيرهما، والجمع الدِّمَن، والدمنة الحقد، والدمنة السرجين. وهي في البيت بمعنى الأول. حومانة الدراج والمتثلم: موضعان، وقوله: أمن أم أوفى يعني: أمن منازل الحبيبة المكناة بأم أوفى دمنة لا تجيب؟ وقوله: لم تكلّم، جزم بلم ثم حرك الميم بالكسر؛ لأن الساكن إذا حرِّك كان الأحرى تحريكه بالكسر. ولم يكن بدّ ههنا من تحريكه ليستقيم الوزن ويثبت السجع ثم أشبعت الكسرة بالإطلاق؛ لأنّ القصيدة مطلقة القوافي.

يقول: أمن منازل الحبيبة المكناة بأم أوفى دمنة لا تجيب سؤالها بهذين الموضعين. أخرج الكلام في معرض الشك ليدل بذلك على أنه لبعد عهده بالدمنة وفرط تغيرها لم يعرفها معرفة قطع وتحقيق.

2- وَدَارٌ لَهَا بالرّقْمَتَينِ كأنّها ... مراجيعُ وشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ

الرقمتان: حرّتان إحداهما قريبة من البصرة والأخرى قريبة من المدينة. المراجيع: جمع المرجوع، من قولهم: رجعه رجعًا، أراد الوشم المجدد والمردّد. نواشر المعصم: عروقه، الواحد: ناشر، وقيل ناشرة، والمعصم: مواضع السوار من اليد والجمع المعاصم.

يقول: أمن منازلها دار بالرقمتين؟ يريد أنها تحل الموضعين عند الانتجاع ولم يرد أنها تسكنهما جميعًا؛ لأن بينهما مسافة بعيدة، ثم شبه رسوم دارها بهما بوشم في المعصم قد رُدِّدَ وَجُدِّدَ بعد انمحائه، شبه رسوم الدار عند تجديد السيول إياها بكشف التراب عنها بتجديد الوشم.

وتلخيص المعنى: أنه أخرج الكلام في معرض الشك في هذه الدار أهي لها أم لا، ثم شبه رسومها بالوشم المجدد في المعصم، وقوله: ودار لها بالرقمتين، يريد: وداران لها بهما، فاجتزأ بالواحد عن التثنية لزوال اللُّبس إذ لا ريب في أن الدار الواحدة لا تكون قريبة من البصرة والمدينة؛ وقوله: كأنها، أراد كأن رسومها وأطلالها، فحذف المضاف.

3- بها العِينُ والأَرْآم يَمشينَ خِلْفَة … وأطْلاؤهَا يَنْهَضْنَ من كل مِجْثَمِ

قوله: بها العِين أي: البقر العِين، فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه، والعين: الواسعات العيون، والعَيَن سعة العين. الأرْآم: جمع رئم وهو الظبي الأبيض خالص البياض؛ وقوله: خلفة، أي: يخلف بعضها بعضًا إذا مضى قطيع منها جاء قطيع آخر ومنه قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً". يريد أن كلًّا منهما يخلف صاحبه، فإذا ذهب النهار جاء الليل، وإذا ذهب الليل جاء النهار، الأطلاء: جمع الطلا وهو ولد الظبية والبقرة الوحشية، ويستعار لولد الإنسان ويكون هذا الاسم للولد من حين يولد إلى شهر أو أكثر منه. الجثوم للناس والطير والوحوش بمنزلة البروك للبعير، والفعل جثم يجثم، والمجثم: موضع الجثوم، والمجثم الجثوم، فالمفعل من باب فعل يفعل، إذا كان مفتوح العين كان مصدرًا، وإذا كان مكسور العين كان موضعاً، نحو: المضرَب بالفتح والمضرِب بالكسر.

يقول: بهذه الدار بقر وحش واسعات العيون، وظباء بيض يمشين بها خالفات بعضها بعضًا وتنهض أولادها من مرابضها لترضعها أمهاتها.

4- وقفْتُ بها من بعدِ عشرِينَ حِجَّةً … فلأيًا عَرَفْتُ الدّار بَعْدَ تَوهمِ

الحجة: السنة، والجمع الحجج، الّلأيُ: الجهد والمشقة.

يقول: وقفت بدار أم أوفى بعد مضي عشرين سنة من بينها، وعرفت دارها بعد التوهم بمقاساة جهد ومعاناة مشقة، يريد أنه لم يثبتها إلا بعد جهد ومشقة لبعد العهد بها ودروس أعلامها.

5- أثافِيَّ سُفْعًا فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ … وَنُؤيًا كجِذْم الحوْضِ لم يتثلَّمِ

الأُثفية والإثْفية: جمعها الأثافِي والأثافِيُّ، بتثقيل الياء وتخفيفها، وهي حجارة توضع القدر عليها، ثم إن كان من الحديد سُمّي منصبًا، والجمع المناصب ولا يسمى أثفية. السفع: السود، والأسفع مثل الأسود، والسفاع مثل السواد، المعرس: أصل المنزل، من التعريس وهو النزول في وقت السحر، ثم استعير للمكان الذي تنصب فيه القدر. المرجل: القدر عند ثعلب من أي صنف من الجواهر كانت. النؤي: نهير يحفر حول البيت ليجري فيه الماء الذي يَنْصَّبُ من البيت عند المطر ولا يدخل البيت، الجمع الآناء والنُئِيّ. الجذم: الأصل، ويروى: كحوض الجد، والجد: البئر القريبة من الكلأ، وقيل: بل هي البئر القديمة.

يقول: عرفت حجارة سوداً تنصب عليها القدر، وعرفت نهيرًا كان حول بيت أم أوفى بقي غير متثلم كأنه أصل حوض، نصب أثافي على البدل في قوله: عرفت الدار؛ يريد أن هذه الأشياء دلته على أنها دار أم أوفى.

6- فَلَمّا عَرَفْتُ الدَّارَ قلتُ لِرَبْعِهَا: … أَلَا انْعَمْ صباحًا أيها الرَّبع واسلَمِ

كانت العرب تقول في تحيتها: انعم صباحًا، أي طاب عيشك في صباحك، من النعمة وهي طيب العيش، وخص الصباح بهذا الدعاء؛ لأن الغارات والكرائه تقع صباحًا، وفيها أربع لغات: انعم صباحًا، بفتح العين من نَعِمَ ينعَم مثل علم يعلم. والثانية: انعِم، بكسر العين، من نَعِمَ ينعِم مثل حسب يحسب، ولم يأت على فَعِلَ يفْعِل من الصحيح وغيرهما، وقد ذكر سيبويه أن بعض العرب أنشده قول امرئ القيس:

ألَا انعم صباحاً أيها الطلل البالي … وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟.

بكسر العين من ينعم. والثالثة: عَمْ صباحاً، من وَعَمَ يَعَمُ مثل وضع يضع. والرابعة: عِمْ صباحاً من وَعَمَ يَعِمُ مثل: وعد يعد.  

يقول: وقفت بدار أم أوفى فقلت لدارها مُحيِّياً إياها وداعياً لها: طاب عيشك في صباحك وسلمت.

7- تبَصّرْ خليلي هلْ تَرَى مِنْ ظَعَائِنٍ … تَحَمَّلْنَ بالعَلياءِ مِنْ فوقِ جُرْثُمِ

الظعائن: جمع ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها، من الظَعْن والظَعَن وهو الارتحال. بالعلياء أي: بالأرض العلياء أي: المرتفعة. جرثم: ماء بعينه.

يقول: فقلت لخليلي: انظر يا خليلي هل ترى بالأرض العالية من فوق هذا الماء نساء في هوادج على إبل؟ يريد أن الوجد برّح به والصبابة ألَحّت عليه حتى ظن المحال لفرط ولهه؛ لأن كونهن بحيث يراهن خليله بعد مضي عشرين سنة محال. التبصّر: النظر. التحمل: الترحل.

8- جَعَلْنَ القَنانَ عَن يَمينٍ وحَزْنَهُ … وكمْ بالقَنانِ مِنْ مُحِلٍّ وَمُحْرِمِ

القنان: جبل لبني أسد. عن يمين: يريد الظعائن. الْحَزْن: ما غلظ من الأرض وكان مستوياً. والْحُزَنُ ما غلظ من الأرض وكان مرتفعًا. من مُحلّ ومحرم، يقال: حلَّ الرجل من إحرامه وأحل، وقال الأصمعي: من محل ومحرم يريد من له حرمة ومن لا حرمة له، وقال غيره: يريد دخل في أشهر الحل ودخل في أشهر الحرم.

يقول: مررت بهم أشهر الحل وأشهر الحرم.

9- عَلَوْنَ بأنْمَاطِ عِتَاقٍ وكِلّةٍ … وِرَادٍ حوَاشيها مُشَاكهة الدّمِ

الباء في قوله: علون بأنماط، للتعدية. ويروى: وعالين أنماطًا. ويروى: وأعلين، وهما بمعنى واحد، والمعالاة قد تكون بمعنى الإعلاء؛ ومنه قول الشاعر:

عاليت أنساعي وجلب الكور … على سراة رائح ممطور

أنماط: جمع نمط وهو ما يبسط من صنوف الثياب. العتاق الكرام الواحد عتيق. الكلّة: الستر الرقيق، والجمع الكلل. الوراد: جمع ورد هو الأحمر والذي يضرب لونه إلى الحمرة. المشاكهة: المشابهة. ويروى وراد الحواشي لونها لون عندم. العندم: البقم، والعندم: دم الأخوين.

يقول: وأعلين أنماطًا كرامًا ذات أخطار أو سترًا رقيقًا، أي: ألقينها على الهوادج

وغشينها بها، ثم وصف تلك الثياب بأنها حمر الحواشي يشبه ألوانها الدم في شدة الحمرة أو البقم أو دم الأخوين.

10- وَوَرّكْنَ في السُّوبانِ يَعلونَ مَتْنَهُ … عَلَيْهِنّ دَلُّ النّاعِمِ الْمُتَنَعّمِ

السوبان: الأرض المرتفعة اسم علم لها. التوريك: ركوب أوراك الدواب. الدل والدلال والدالة واحد، وقد أدلت المرأة وتدللت. النعمة: طيب العيش. والتنعم: تكلف النعمة.

يقول: وركبت هؤلاء النسوة أوراك ركابهن في حال علوهن متن السوبان، وعليهن دلال الإنسان الطيب العيش الذي يتكلف ذلك.

11- بكرْنَ بكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ … فَهُنّ وَوَادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلفَمِ

بكر وابتكر وبكّر وأبكر: سار بكرة. استحر: سار سحرًا. سُحرة: اسم للسحر، ولا تصرف سحرة وسحر إذا عنيتهما من يومك الذي أنت فيه، وإن عنيت سحرًا من الأسحار صرفتهما. وادي الرس: واد بعينه.

يقول: ابتدأن السير وسرن سحرًا وهن قاصدات لوادي الرسِّ لا يخطئنه، كاليد القاصدة للفم لا تخطئه.

12- وَفيهِنّ مَلْهىً للطّيفِ وَمَنْظَرٌ … أنيقٌ لِعَينِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسّمِ

الملهى: اللهو وموضعه. اللطيف: المتأنق الحسن المنظر. الأنيق: المعجب، فعيل بمعنى المفعل، كالحكيم بمعنى المحكم، والسميع بمعنى المسمع، والأليم بمعنى المؤلم، ومنه قوله عز وجل: "عَذَابٌ أَلِيم". ومنه قول ابن معديكرب:

أمن ريحانة الداعي السميع … يؤرقني وأصحابي هجوع

أي المسمع. والإيناق: الإعجاب. التوسّم: التفرس، ومنه قوله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِين". وأصله من الوسام والوسامة وهما الحسن، كأن التوسم تتبع محاسن الشيء، وقد يكون من الوسم فيكون تتبع علامات الشيء وسماته.

 يقول: وفي هؤلاء النسوان لهو أو موضع لهو للمتأنق الحسن المنظر، ومناظر معجبة لعين الناظر المتتبع محاسنهن وسمات جمالهن.

13- كأنّ فُتَاتَ العِهْنِ في كلّ مَنزِلٍ … نَزَلنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحَطَّمِ

الفتات: اسم لما انفت من الشيء أي: تقطع وتفرق، وأصله من الفت وهو التقطيع والتفريق، والفعل منه فتّ يفتّ، والمبالغة التفتيت، والمطاوع الانفتات والتفتت. الفنا: عنب الثعلب. التحطم: التكسر، والحطم: الكسر. العهن: الصوف المصبوغ، والجمع العهون.

يقول: كأن قطع الصوف المصبوغ الذي زينت به الهوادج في كل منزل نزلته هؤلاء النسوة حب عنب ثعلب في كل حال غير محطم؛ لأنه إذا حُطِّم زايله لونه، شبه الصوف الأحمر بحب عنب الثعلب قبل حطمه.

14- فَلَمّا وَرَدْنَ الماء زُرْقًا جِمَامَهُ … وَضَعْنَ عصيّ الحاضِر الْمُتَخَيِّمِ

الزرقة: شدة الصفاء، ونصل أزرق وماء أزرق إذا اشتد صفاؤهما، والجمع زرق، ومنه زرقة العين. الجمام: جمع جم الماء وجمته وهو ما اجتمع منه في البئر والحوض أو غيرهما. وضع العصى: كناية عن الإقامة؛ لأن المسافرين إذا أقاموا وضعوا عصيهم. التَّخَيُّم: ابتناء الخيمة.

يقول: فلمّا وردت هؤلاء الظعائن الماء وقد اشتد صفاء ما جمع منه في الآبار والحياض، عَزَمْنَ على الإقامة كالحاضر المبتني الخيمة.

15- ظَهَرْنَ مِنَ السُّوبانِ ثُمّ جَزَعْنَهُ … على كلّ قَيْنِيِّ قشيبٍ ومُفْأمِ

الجزع: قطع الوادي، والفعل جزع يجزع، ومنه قول امرئ القيس:

وآخر منهم جازع نجد كبكب

أي قاطع. القين: كل صانع عند العرب، فالحداد قين، والجزار قين، فالقين هنا الرحّال، وجمع القين: قيون، مثل بيت وبيوت، وأصل القَيْنِ الإصلاح، والفعل منه قان يقين، ثم وضع المصدر موضع اسم الفعل وجعل كل صانع قينًا؛ لأنه مصلح، ومنه قول الشاعر:

ولي كبد مجروحة قد بدا بها … صدوع الهوى لو أن قينًا يقينها

أي لو أن مصلحًا يصلحها. ويروى: على كل حيري، منسوب إلى الحيرة1، وهي بلدة. القشيب: الجديد. المفأم: الموسع.

يقول: علون من وادي السوبان ثم قطعنه مرة أخرى؛ لأنه اعترض لهن في طريقهن مرتين وهن على كل رحل حيرى أو قيني جديد موسع.

16- فَأَقْسَمْتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حوْلَهُ … رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيشٍ وَجُرْهُمِ

يقول: حلفت بالكعبة التي طاف حولها من بناها من القبيلتين. جرهم: قبيلة قديمة تزوج فيهم إسماعيل، عليه السلام، فغلبوا على الكعبة والحرم بعد وفاته عليه السلام، وضعف أمر أولاده، ثم استولى عليها بعد جرهم خزاعة إلى أن عادت إلى قريش، وقريش اسم لولد النضر بن كنانة.

17- يَمينًا لَنِعْمَ السّيّدانِ وُجِدْتُمَا … على كلّ حالٍ مِنْ سَحيلٍ وَمُبْرَمِ

السحيل: المفتول على قوة واحدة. المبرم: المفتول على قوتين أو أكثر، ثم يستعار السحيل للضعيف والمبرم للقوي.

يقول: حلفت يمينًا، أي: حلفت حلفًا، نعم السيدان وجدتما على كل حال ضعيفة وحال قوية، لقد وجدتما كاملين مستوفيين لخلال الشرف في حال يحتاج فيها إلى ممارسة الشدائد وحال يفتقر فيها إلى معاناة النوائب، وأراد بالسيدين هرم بن سنان والحارث بن عوف، مدحهما لإتمامهما الصلح بين عبس وذبيان وتحملهما أعباء ديات القتلى.

18- تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا … تَفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ

التدارك: التلافي، أي تداركتما أمرهما. التفاني: التشارك في الفناء. منشم، قيل فيه: إنه اسم امرأة عطارة اشترى قوم منها جفنة من العطر وتعاقدوا وتحالفوا وجعلوا آية الحلف غمسهم الأيدي في ذلك العطر، فقاتلوا العدو الذي تحالفوا على قتاله فقُتلوا عن آخرهم، فَتَطَيَّرَ العرب بعطر منشم وسار المثل به، وقيل: بل كان عطارًا يشترى منه ما يحنَّطُ به الموتى فسار المثل بعطره.

يقول: تلافيتما أمر هاتين القبيلتين بعدما أفنى القتال رجالهما وبعد دقهم عطر هذه المرأة أي بعد إتيان القتال على آخرهم كما أتى على آخر المتعطرين بعطر منشم.

19- وقد قلتما: إنْ نُدْرِك السّلمَ وَاسعًا … بمالٍ وَمَعْروفٍ من القول نَسلمِ

السلم: الصلح، يذكر ويؤنث.

يقول: وقد قلتما: إن أدركنا الصلح واسعًا، أي إن اتفق لنا إتمام الصلح بين القبيلتين ببذل المال وإسداء معروف من الخير سلمنا من تفاني العشائر.

20- فأَصْبَحْتُمَا منها عَلَى خَيرِ مَوْطِنٍ … بَعيدَينِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ

العقوق: العصيان، ومنه قوله عليه السلام: " لا يدخل الجنة عاق لأبويه ". المأثم: الإثم، يقال: أثم الرجل يأثم إذا أقدم على الإثم، وأثمه الله يؤثمه إثاماً وإثْمًا إذا جازاه بإثمه، وآثمه إيثاماً صيره ذا إثم، وتأثَّم الرجل تأثُّمًا إذا تجنب الإثم، مثل تحرج وتحنث وتحوب إذا تجنب الحرج والحنث والحوب.

يقول: فأصبحتما على خير موطن من الصلح بعيدين في إتمامه من عقوق الأقارب والإثم بقطيعة الرحم، وتلخيص المعنى: إنكما طلبتما الصلح بين العشائر ببذل الأعلاق وظفرتما به وبعدتما عن قطيعة الرحم والضمير في منها يعود إلى السلم، يذكر ويؤنث.

21- عَظيمَين فِي عُلْيا مَعَدٍّ هديتُما … وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزًا مِنَ الْمَجْدِ يعظُمِ

العليا: تأنيث الأعلى، وجمعها العليات والعلى مثل الكبرى في تأنيث الأكبر والكبريات والكبر في جمعها، وكذلك قياس الباب. وقوله: هديتما، دعاء لهما. الاستباحة: وجود الشيء مباحًا، وجعل الشيء مباحًا، والاستباحة الاستئصال. ويروى يعظم من الإعظام بمعنى التعظيم، ونصب عظيمين على الحال.

يقول: ظفرتما بالصلح في حال عظمتكما في الرتبة العليا من شرف معد وحسبها، ثم دعا لهما، فقال: هديتما إلى طريق الصلاح والنجاح والفلاح، ثم قال:

ومن وجد كنزًا من المجد مباحًا واستأصله عظم أمره أو عظم فيما بين الكرام.

22- تُعَفَّى الكُلومُ بالْمِئينَ فَأَصْبَحتْ … يُنَجّمُهَا مَنْ لَيْسَ فيها بِمُجْرِمِ

الكلوم والكلام: جمع كَلْم وهو الجرح، وقد يكون مصدرًا. التعفية: التمحية من قولهم: عفا الشيء يعفو إذا انمحى ودرس، وعفاه يعفيه وعفاه أيضًا عفواً. ينجِّمها أي: يعطيها نجوماً.

يقول: تمحى وتزال الجراح بالمئين من الإبل، فأصبحت الإبل يعطيها نجومًا من هو بريء الساحة بعيدًا عن الجرم في هذه الحروب يريد أنهما بمعزل عن إراقة الدماء وقد ضمنا إعطاء الديات ووفيا به وأخرجاها نجومًا وكذلك تعطى الديات.

23- يُنَجّمُهَا قَوْمٌ لِقَومٍ غَرَامَةً … وَلَمْ يُهرِيقوا بينَهمْ مِلْءَ مِحْجَمِ

أراق الماء والدم يريقه وهراقه يهريقه وأهراقه يهريقه لغات، والأصل اللغة الأولى، والهاء في الثانية بدل من الهمزة في الأولى، وجمع في الثالثة بين البدل والمبدل توهمًا أن همزة أفعل لم تلحقه بعد. المحجم: آلة الحجام، والجمع المحاجم.

يقول: ينجِّم الإبل قوم غرامة لقوم، أي: ينجمها هذان السيدان غرامة للقتلى؛ لأن الديات تلزمهم دونهما، ثم قال: وهؤلاء الذين ينجمون الديات لم يريقوا مقدار ما يملأ محجماً من الدماء، والملء مصدر ملأت الشيء، والملء مقدار الشيء الذي يملأ الإناء وغيره، وجمعه أملاء، يقال: أعطني ملء القدح ومليئه وثلاثة أملائه.

24- فَأَصْبَحَ يَجْري فيهمُ مِنْ تِلادِكُمْ … مَغَانِمُ شَتّى مِنْ إفالٍ مُزَنَّمِ

التلاد والتليد: المال القديم الموروث. المغانم: جمع المغنم وهو الغنيمة. شتى أي: متفرقة. الإفال: جمع أفيل وهو الصغير السن من الإبل. المزنَّم: المعلم بزنمة.

يقول: فأصبح يجري في أولياء المقتولين من نفائس أموالكم القديمة الموروثة

غنائم متفرقة من إبل وصغار معلمة، وخص الصغار؛ لأن الديات تعطي من بنات اللبون والحقاق والأجذاع، ولم يقل المزنمة وإن كان صفة الإفال حملاً على اللفظ؛ لأن فعالًا من الأبنية التي اشترك فيها الآحاد والجموع، وكل بناء انخرط في هذا السلك ساغ تذكيره حملاً على اللفظ.

25- ألا أَبْلِغِ الأحْلَافَ عني رِسَالَةً … وَذُبْيانَ هل أقسَمتمُ كلَّ مُقسَمِ

الأحلاف والحلفاء: الجيران، جمع حليف على أحلاف كما جمع نجيب على أنجاب، وشريف على أشراف، وشهيد على أشهاد، أنشد يعقوب:

قد أغتدي لفتية أنجاب … وجهمة الليل إلى ذهاب

أقسم أي: حلف، وتقاسم القوم أي تحالفوا، والقسم الحلف، والجمع الأقسام، وكذلك القسيمة، هل أقسمتم أي قد أقسمتم، ومنه قوله تعالى: "هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَان". أي قد أتى، وأنشد سيبويه:

سائل فوارس يربوع بشدّتنا … أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم

أي قد رأونا؛ لأن حرف الاستفهام لا يلحق حرف الاستفهام.

يقول: أبلغ ذبيان وحلفاءها وقل لهم: قد حلفتم على إبرام حبل الصلح كل حلف فتحرجوا من الحنث وتجنبوا.

26- فَلا تَكْتُمُنّ اللهَ مَا فِي نفوسِكُم … لِيَخْفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ

يقول: لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يكتم من شيء يعلمه الله، يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد، فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله؛ وقوله: يكتم الله، أي يكتم من الله.

27- يُؤخَّر فيُوضَع فِي كِتَابٍ فَيُدّخَر … لِيَومِ الْحسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنقَمِ

أي يؤخر عقابه ويرقم في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل العقاب في الدنيا قبل المصير إلى الآخرة فينتقم من صاحبه، يريد لا مخلص من عقاب الذنب آجلا أو عاجلاً.

28- وَمَا الْحَرْبُ إلّا مَا علمتمْ وَذُقتُم … وَما هوَ عَنها بالْحَديثِ الْمُرَجَّمِ

الذوق: التجربة، الحديث الْمُرجَّم: الذي يرجم فيه بالظنون أي يحكم فيه بظنونها.

يقول: ليست الحرب إلا ما وعدتموها وجربتموها ومارستم كراهتها، وما هذا الذي أقول بحديث مرجّم عن الحرب، أي هذا ما شهدت عليه الشواهد الصادقة من التجارب وليس من أحكام الظنون.

29- مَتى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوها ذَميمَةٌ … وتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فتَضْرَمِ

الضّرى: شدة الحرب واستعار نارها، وكذلك الضَّراوة، والفعل ضري يضرى، والإضراء والتضرية الحمل على الضراوة، ضرمت النار تضرم ضرمًا واضطرمت وتضرمت: التهبت، وأضرمتها وضرمتها: ألهبتها.

يقول: متى تبعثوا الحرب تبعثوها مذمومة أي تذمون على إثارتها، ويشتد ضرمها إذا حملتموها على شدة الضرى فتلهب نيرانها، وتلخيص المعنى: إنكم إذا أوقدتم نار الحرب ذممتم، ومتى أثرتموها ثارت وهيجتموها هاجت. يحثّهم على التمسك بالصلح، ويعلمهم سوء عاقبة إيقاد نار الحرب.

30- فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثِفالها … وَتَلْقَحْ كِشافاً ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ

ثفال الرحى: خرقة أو جلدة تبسط تحتها ليقع عليه الطحين. الباء في قوله بثفالها بمعنى مع. اللقح واللقاح: حمل الولد، يقال: لقحت الناقة، والإلقاح جعلها كذلك. الكشاف: أن تلقح النعجة في السنة مرتين. أنتجت الناقة إنتاجًا: إذا ولدت عندي، ونتجت الناقة تنتج نتاجًا. الإتآم: أن تلد الأنثى توأمين، وامرأة متآم إذا كان ذلك دأبها، والتوأم يجمع على التؤام، ومنه قول الشاعر:

قالت لنا ودمعها تؤام … كالدر إذ أسلمه النظام

‌‌ يقول: وتعرككم الحرب عرك الرحى الْحَبَّ مع ثفاله، وخص تلك الحالة لأنه لا يبسط إلا عند الطحن، ثم قال: وتلقح الحرب في السنة مرتين وتلد توأمين، جعل إفناء الحرب إياهم بمنزلة طحن الرحى الحب، وجعل صنوف الشر تتولد من تلك الحروب بمنزلة الأولاد الناشئة من الأمهات، وبالغ في وصفها باستتباع الشر شيئين: أحدهما جعله إياها لاقحة كشافًا، والآخر إتآمها.

31- فَتُنْتِج لَكُمْ غلْمانَ أشأمَ كلّهمْ … كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفْطِمِ

الشؤم: ضد اليمن، ورجل مشئوم ورجال مشائيم كما يقال ميمون ورجال ميامين، والأشأم أفعل من الشؤم وهو مبالغة المشئوم، وكذلك الأيمن مبالغة الميمون وجمعه الأشائم وأراد بأحمر عاد أحمر ثمود وهو عاقر الناقة، واسمه قدار بن سالف.

يقول: فتولد لكم أبناء في أثناء تلك الحروب كل واحد منهما يضاهي في الشؤم عاقر الناقة ثم ترضعهم الحروب وتفطمهم، أي تكون ولادتهم ونشوؤهم في الحروب فيصبحون مشائيم على آبائهم.

32- فَتُغْلِل لكم مَا لا تُغِلّ لأَهْلِها … قُرىً بالعراقِ من قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ

أغلت الأرض تغلّ إذا كانت لها غلة، أظهر تضعيف المضاعف في محل الجزم والبناء على الوقف، يتهكم ويهزأ بهم.

يقول: فتغل لكم الحروب حينئذ ضروبًا من الغلات لا تكون تلك الغلات لقرى من العراق التي تغل الدراهم بالقفيزات؛ وتلخيص المعنى أن المضار المتولدة من هذه الحروب تُرْبي على المنافع المتولدة من هذه القرى، كل هذا حث منه إياهم على الاعتصام بحبل الصلح، وزجر عن الغدر بإيقاد نار الحرب.

33- لَعَمْري لَنِعْمَ الْحَيّ جَرّ عليهِمُ … بما لا يُؤاتيهمْ حُصَينُ بن ضَمضَمِ

جر عليهم: جنى عليهم، والجريرة الجناية، والجمع الجزائر، يؤاتيهم: يوافقهم، وهذه المؤاتاة قتل وردُ بن حابس العبسي هرمَ بن ضمضم قبل هذا الصلح، فلما اصطلحت القبيلتان عبس وذبيان استتر وتوارى حصين بن ضمضم لئلا يطالب بالدخول في الصلح، وكان ينتهز الفرصة حتى ظفر برجل من عبس بواء بأخيه فشد عليه فقتله فركبت عبس فاستقر الأمر بين القبيلتين على عقل القتيل.

يقول: أقسم بحياتي لنعمت القبيلة جنى عليهم حصين بن ضمضم، وإن لم يوافقوه في إضمار الغدر ونقض العهد.

34- وكانَ طَوَىَ كشحاً على مُسْتَكِنّةٍ … فَلا هُوَ أبْدَاها وَلَمْ يَتَقَدّمِ

الكشح: منقطع الأضلاع، والجمع كشوح، والكاشح المضمر العداوة في كشحه، وقيل بل هو من قولهم: كشح يكشح كشحًا إذا أدبر وولى، وإنما سمي العدو كاشحًا لإعراضه عن الود والوفاق، ويقال: طوى كشحه على كذا أي أضمر في صدره. الاستكنان: طلب الكن، والاستكنان الاستتار، وهو في البيت على المعنى الثاني. فلا هو أبداها أي فلم يبدها. ويكون لا مع الفعل الماضي بمنزلة لم مع الفعل المستقبل في المعنى، كقوله تعالى: "فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى". أي فلم يصدق ولم يصلِّ، وقوله تعالى: "فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة". أي لم يقتحمها، وقال أمية بن أبي الصلت:

إن تغفر اللهم فاغفر جَمَّا … وأي عبد لك لا أَلَمَّا

أي لم يلم بالذنب. وقال الراجز:

وأي أمر سيء لا فعله

أي: لم يفعله.

يقول: وكان حصين أضمر في صدره حقدًا وطوى كشحه على نية مستترة فيه ولم يظهرها لأحد ولم يتقدم عليها قبل إمكانه الفرصة.

يقول: لم يتقدم لما أخفى فيجعل به، ولكن أخره حتى يمكنه.

35- وَقَالَ سأقضِي حاجتي ثُمَّ أَتَّقِي … عَدوي بألْفٍ مِنَ وَرَائِيَ مُلْجَمِ

يقول: وقال حصين في نفسه: سأقضي حاجتي من قتل قاتل أخي أو قتل كفؤ له، ثم أجعل بيني وبين عدوي ألف فارس ملجم فرسه أو ألفاً من الخيل ملجماً

36- فَشَدّ فَلَمْ يُفْزِع بُيُوتاً كثيرَةً … لدى حَيْثُ ألقَتْ رَحلَها أمُّ قشعمِ

الشدة: الحملة، وقد شد عليه يشد شدًّا، الإفزاع: الإخافة، أم قشعم: كنية المنية.

يقول: فحمل حصين على الرجل الذي رام أن يقتله بأخيه، ولم يفزع بيوتًا كثيرة أي: لم يتعرض لغيره عند ملقى رحل المنية، وملقى الرحل: المنزل؛ لأن المسافر يلقي به رحله، أراد عند منزل المنية. وجعله منزل المنية لحلولها ثُمّ بمن قتله حصين.

37- لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السّلاحِ مُقَذَّفِ … لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

شاكي السلاح وشائك السلاح وشاك السلاح أي: تام السلاح، كله من الشوكة وهي العدة والقوة. مقذف أي: يقذف به كثيراً إلى الوقائع، والتقذيف مبالغة القذف. اللبد: جمع لبدة الأسد وهي ما تلبد من شعره على منكبيه.

يقول: عند أسد تام السلاح يصلح لأن يرمى به إلى الحروب والوقائع، يشبه أسدًا له لبدتان لم تقلّم براثنه، يريد أنه لا يعتريه ضعف ولا يعيبه عدم شوكة كما أن الأسد لا يقلم براثنه، والبيت كله من صفة حصين.

38- جَريءٍ متى يُظْلَم يُعاقِب بظُلمِهِ … سَريعًا وإلّا يُبْدَ بالظّلمِ يَظْلِمِ

الجرأة والجراءة: الشجاعة، والفعل جرؤ يجرؤ وقد جرّأته عليه. بدأت بالشيء أبدأ به مهموز فقلبت الهمزة ألفًا ثم حذفت للجازم.

يقول: وهو شجاع متى ظلم عاقب الظالم بظلمه سريعًا وإن لم يظلمه أحد ظلم الناس إظهارًا لغنائه وحسن بلائه، والبيت من صفة أسد في البيت الذي قبله وعنى به حصينًا ثم أضرب عن قصته ورجع إلى تقبيح صورة الحرب والحث على الاعتصام بالصلح.

39- رَعَوا ظِمْأَهُمْ حتى إذا تَمّ أَوْرَدوا … غِمارًا تَفَرّى بالسّلاحِ وبالدّمِ

الرعي يقتصر على مفعول واحد: رعت الماشية الكلأ، وقد يتعدى إلى مفعولين نحو: رعيت الماشية الكلأ ورعى الكلأ نفسه. الظِّمْء: ما بين الوردين والجمع الأظماء، الغمار: جمع غمر وهو الماء الكثير. التفرّي: التشقّق. 

يقول: رعوا إبلهم الكلأ حتى إذا تم الظمء أوردوها مياهًا كثيرة، وهذا كله استعارة، والمعنى أنهم كفوا عن القتال وأقلعوا عن النزال مدة معلومة كما ترعى الإبل مدة معلومة، ثم عادوا الوقائع كما تورد الإبل بعد الرعي، فالحروب بمنزلة الغمار ولكنها تنشق عنهم باستعمال السلاح وسفك الدماء.

40- فَقَضّوْا مَنايا بَيْنَهُمْ ثُمّ أصدَروا … إلى كلأ مُسْتَوْبِلٍ مُتَوَخِّمِ

قضَيت الشيء وقضّيته: أحكمته وأتممته. أصدرت: ضد أوردت. استوبلت الشيء: وجدته وبيلًا، واستوخمته وتوخمته: وجدته وخيمًا. والوبيل والوخيم: الذي لا يستمرأ.

يقول: فأحكموا وتمموا منايا بينهم، أي: قتل كل واحد من الحيين صنفًا من الآخر، فكأنهم تمموا منايا قتلاهم ثم أصدروا إبلهم إلى كلأ وبيل وخيم، أي: ثم أقلعوا عن القتال والقراع واشتغلوا بالاستعداد له ثانيًا كما تصدر الإبل فترعى إلى أن تورد ثانياً، وجعل اعتزامهم على الحرب ثانية والاستعداد لها بمنزلة كلأ وبيل وخيم، جعل استعدادهم للحرب أولًا وخوضهم غمراتها وإقلاعهم عنها زمانًا وخوضهم إياها ثانية بمنزل رعي الإبل أولًا وإيرادها وإصدارها ورعيها ثانيًا، وشبه تلك الحال بهذه الحال، ثم أضرب عن هذا الكلام وعاد إلى مدح الذين يعقلون القتلى ويَدُونها.

41- لعَمرُك ما جَرّتْ عَلَيْهِمْ رِمَاحُهُم … دَمَ ابنِ نَهيكِ أوْ قتلِ الْمُثَلَّمِ

يقول: أقسم ببقائك وحياتك أن رماحهم لم تجن عليهم دماء هؤلاء المسمّين، أي لم يسفكوها ولم يشاركوا قاتليهم في سفك دمائهم، والتأنيث في شاركت للرماح يبين براءة ذممهم عن سفك دمهم ليكون ذلك أبلغ في مدحهم بعقلهم القتلى.

42- وَلَا شَارَكت فِي الْمَوتِ فِي دَمِ نَوْفَلِ … وَلَا وَهَبٍ منها وَلا ابنِ الْمخَزَّمِ

مضى شرح هذا البيت في أثناء شرح البيت الذي قبله.

43- فكُلًاً أرَاهُمْ أصْبَحُوا يَعْقِلُونَهُ … صَحيحاتِ مالٍ طالِعاتٍ بِمَخْرِمِ

عقلت القتيل: وديته، وعقلت عن الرجل أعقل عنه أديت عنه الدية التي لزمته، وسميت الدية عقلًا لأنها تعقل الدم عن السفك أي تحقنه وتحبسه، وقيل بل سميت عقلًا؛ لأن الوادي كان يأتي بالإبل إلى أفنية القتيل فيعقلها هناك بعقلها، فعقل على هذا القول بمعنى المعقول، ثم سميت الدية عقلًا وإن كانت دنانير ودراهم، والأَصل ما ذكرنا. طلعت الثنية وأطلعتها: علوتها. المخرم: منقطع أنف الجبل والطريق فيه، والجمع المخارم.

يقول: فكل واحد من القتلى أرى العاقلين يعقلونه بصحيحات إبل تعلو في طرق الجبال عند سَوْقها في أولياء المقتولين.

44- لَحيٍّ حِلالٍ يَعْصِمُ الناسَ أَمْرُهُمْ … إذا طَرَقَتْ إحدى الليالي بِمُعظَمِ

حلال: جمع حال مثل صاحب وصحاب وصائم وصيام وقائم وقيام، يعصم: يمنع. الطروق: الإتيان ليلًا، والباء في قوله بمعظم يجوز كونه بمعنى مع وكونه للتعدية. أعظم الأمر أي سار إلى حال العظم، كقولهم: أجز البر وأجد التمر وأقطف العنب، أي: يعقلون القتلى لأجل حي نازلين يعصم أمرهم جيرانهم وحلفاءهم إذا أتت إحدى الليالي بأمر فظيع وخطب عظيم، أي إذا نابتهم نائبة عصموهم ومنعوهم.

45- كِرَامٍ فَلا ذو الضِّغْنِ يُدْرِكُ تَبْلَهُ … وَلا الجارِمُ الْجَاني عليهمْ بِمُسْلَمِ

الضغن والضغينة واحد: وهو ما استكن في القلب من العداوة، والجمع الأضغان والضغائن. التبل: الحقد، والجمع التبول، الجارم والجاني واحد والجارم: ذو الجرم، كاللابن والتامر بمعنى ذي اللبن وذي التمر. الإسلام: الخذلان.

يقول: لحي كرام لا يدرك ذو الوتر وتره عندهم ولا يقدر على الانتقام منهم من ظلموه وجنى عليهم من فتيانهم وحلفائهم وجيرانهم.

46- سَئِمْتُ تَكَاليفَ الْحَياةِ وَمَنْ يعشْ … ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبا لَكَ يَسْأَمِ

سمئت الشيء سآمة: مللته. التكاليف: المشاق الشدائد. لا أبا لك: كلمة جافية لا يراد بها الجفاء وإنما يراد بها التنبيه والإعلام.

يقول: مللت مشاق الحياة وشدائدها، ومن عاش ثمانين سنة ملَّ الكبر لا محالة.

47- وَأَعْلَمُ مَا فِي اليوْمِ والأمسِ قَبْلَهُ … وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي

يقول: وقد يحيط علمي بما مضى وما حضر، ولكني عميُّ القلب عن الإحاطة بما هو منتظر متوقع.

48- رَأَيْتُ الْمَنايا خَبطَ عشواءَ من تُصب … تُمِتْهُ وَمَنْ تُخطئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ

الخبط: الضرب باليد، والفعل خبط يخبط. العشواء: تأنيث الأعشى، وجمعها عُشْو، والياء في عشِيَ منقلبة عن الواو كما كانت في رضي منقلبة عنها، والعشواء: الناقة التي لا تبصر ليلًا، ويقال في المثل: هو خابط خبط عشواء، أي قد ركب رأسه في الضلالة كالناقة التي لا تبصر ليلًا فتخبط بيديها على عمى، فربما تردَّت في مهواة وربما وطئت سبعًا أو حية أو غير ذلك.

قوله: ومن تخطئ أي ومن تخطئه، فحذف المفعول، وحذفه سائغ كثير في الكلام والشعر والتنزيل. التعمير: تطويل العمر.

يقول: رأيت المنايا تصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة، كما أن هذه الناقة تطأ على غير بصيرة، ثم قال: من أصابته المنايا أهلكته ومن أخطأته أبقته فبلغ الهرم.

49- وَمَنْ لَمْ يُصانعْ فِي أُمُورٍ كَثيرةٍ … يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطَأ بِمَنْسِمِ

يقول: ومن لم يصانع الناس ولم يدارهم في كثير من الأمور قهروه وغلبوه وأذلوه وربما قتلوه، كالذي يضرس بالناب ويوطأ بالمنسم. الضرس: العض على الشيء بالضرس، والتضريس مبالغة. المنسم للبعير: بمنزلة السنبك للفرس، والجمع المناسم.

50- وَمَنْ يجعلِ المعرُوفَ من دونِ عِرْضِهِ … يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشّتمَ يُشْتَمِ

يقول: ومن جعل معروفة ذابًّا ذم الرجال عن عرضه، وجعل إحسانه واقيًا عرضه وفر مكارمه، ومن لا يتق شتم الناس إياه شُتِم؛ يريد أن من بذل معروفه صان عرضه، ومن بخل معروفه عرَّض عرضه للذم والشتم. وفَرت الشيء أفِره وفرًا: أكثرته، ووفرته فوفر وفوراً.

51- وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بفضْلِهِ … على قَوْمِهِ يُسْتَغنَ عنهُ وَيُذْمَمِ

يقول: من كان ذا فضل ومال فبخل به استغني عنه وذم، فأظهر التضعيف على لغة أهل الحجاز؛ لأن لغتهم إظهار التضعيف في محل الجزم والبناء على الوقف.

52- وَمَن يُوفِ لا يُذَمَم وَمَن يُهْدَ قلبُه … إلى مُطمَئِنّ البِرّ لا يَتَجَمْجَمِ

وفيت بالعهد أفي به وفاء وأوفيت به إيفاء، لغتان جيدتان والثانية أجودهما؛ لأنها لغة القرآن قال الله تعالى: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُم". ويقال: هديته الطريق وهديته إلى الطريق وهديته للطريق.

يقول: ومن أوفى بعهده لم يلحقه ذم، ومن هدي قلبه إلى بر يطمئن القلب إلى حسنه ويسكن إلى وقوعه موقعه، لم يتتعتع في إسدائه وإيلائه.

53- وَمَنْ هَابَ أسبابَ الْمَنايا يَنَلْنَهُ … وإنْ يَرْقَ أَسبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ

رقي في السلم يرقى رقيًّا: صعد فيه، ورقى المريض يرقيه رقية، ويروى ولو رام أسباب السماء.

يقول: ومن خاف وهاب أسباب المنايا نالته، ولم يُجْدِ عليه خوفه وهيبته إياها نفعًا ولو رام الصعود إلى السماء فراراً منها.

54- وَمَن يجعَلِ الْمَعرُوفَ فِي غَيرِ أهلِهِ … يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمًاً علَيْهِ وَيَنْدَمِ

يقول: ومن وضع أياديه في غير من استحقها، أي من أحسن إلى من لم يكن أهلًا للإحسان إليه والامتنان عليه، ذمَّه الذي أُحسن إليه ولم يحمده، وندم المحسن الواضع إحسانه في غير موضعه.

 55- وَمَن يَعْصِ أطرَافَ الزِّجاجِ فَإِنَّهُ … يُطيعُ العَوَالي رُكّبَتْ كلَّ لَهْذَمِ

الزِّجاج، جمع زُجّ الرمح: وهو الحديد المركب في أسفله، وإذا قيل: زُجّ الرمح، عني به ذلك والسنان. اللهذم: السنان الطويل. عالية الرمح ضد سافتله، والجمع العوالي، إذا التقت فئتان من العرب سددت كل واحدة منهما زجاج الرماح نحو صاحبتها وسعى الساعون في الصلح، فإن أبتا إلا التمادي في القتال قلبت كل واحدة منها الرماح واقتتلتا بالأسنة.

يقول: ومن عصى أطراف الزجاج أطاع عوالي الرماح التي ركّبت فيها الأسنة الطوال؛ وتحرير المعنى: من أبى الصلح ذللته الحرب وليَّنته، وقوله: يطيع العوالي، كان حقه أن يقول: يطيع العوالِيَ، بفتح الياء، ولكنّه سكن الياء لإقامة الوزن، وحمل النصب على الرفع والجر؛ لأن هذه الياء مسكنة، ومثله قول الراجز:

كأنّ أيديهن بالقاع القرق

أيدي جوارٍ يتعاطينَ الوَرِق

56- وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ … يُهَدَّم وَمَن لا يظلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ

الذود: الكفُّ والرَّدع.

يقول: ومن لا يكفّ أعداءه عن حوضه بسلاحه هدم حوضه، ومن كف عن ظلم الناس ظلمه الناس، يعني ومن لم يَحْمِ حريمه استبيح واستعار الحوض للحريم.

57- وَمَن يغترِبْ يَحْسِبْ عدُوًّا صَديقَهُ … وَمَنْ لَمْ يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لَمْ يكرَّمِ

يقول: من سافر واغترب حسب الأعداء أصدقاء؛ لأنه لم يجربهم فتوقفه التجارب على ضمائر صدورهم، ومن لم يكرم نفسه بتجنب الدنايا لم يكرمه الناس.

58- وَمَهْمَا تكنْ عند امْرِئٍ من خَلِيقَةٍ … وَإِنْ خَالها تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ

يقول: ومهما كان للإنسان من خلق فظن أنه يخفى على الناس علم ولم يَخْفَ، والخلق والخليقة واحد، والجمع الأخلاق والخلائق، وتحرير المعنى: أن الأخلاق لا تخفى والتخلّق لا يبقى.

59- وكائنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ … زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ

في كائن ثلاث لغات، كأيِّن وكائن وكأي، مثل كعين، وكاعن وكَيْع. الصَّمت والصُّمات والصموت واحد، والفعل صمت يصمت.

يقول: وكم صامت يعجبك صمته فتستحسنه وإنما تظهر زيادته على غيره ونقصانه عن غيره عند تكلمه.

60- لسانُ الفتى نصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤادُهُ … فَلَمْ يَبْقَ إلّا صُورَةُ اللَّحْمِ والدَّمِ

هذا كقول العرب: المرء بأصغريه لسانه وجنانه.

61- وَإنّ سَفاهَ الشَّيخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ … وإنّ الفَتَى بَعدَ السّفَاهَةِ يَحْلُمِ

يقول: إذا كان الشيخ سفيهًا لم يُرْجَ حِلْمه؛ لأنه لا حال بعد الشيب إلا الموت، والفتى وإن كان نزقًا سفيهًا أكسبه شيبه حلماً ووقاراً، ومثله قول صالح بن عبد القدوس:

والشيخ لا يترك أخلاقه … حتى يوارى في ثرى رمسه

62- سَألْنا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنا فَعُدْتُمُ … وَمَن أكثرَ التسآلَ يوْمًا سَيُحْرَمِ

يقول: سألناكم رفدكم ومعروفكم فجدتم بهما، فعدنا إلى السؤال وعدتم إلى النوال، ومن أكثر السؤال حرم يومًا لا محالة. والتسآل: السؤال: وتفعال من أبنية المصادر. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عزيزي الزائر:
أهلاً وسهلاً بك اكتب ملاحظاتك أو سؤالك أو راسلنا على صفحة النحو والصرف:
https://www.facebook.com/arabicgrammar1255/

جميع الحقوق محفوظه © الإشراق1

تصميم الورشه