قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ حَرْبُ دَاحِسٍ وَالغَبْرَاءِ
يُضرَب مَثَلاً للقوم وقَعُوا في الشر يبقى
بينهم مدة.
قَال المفضل: داحسٌ
فرسُ قيسِ بن زهير ابن جَذِيمة العَبسي، والغَبْرَاء:
فرسُ حُذيفة ابن بَدْر الفَزَاري، وكان
يُقَال لحذيفة هذا "ربُّ مَعد" في الجاهلية، وكان من حديثهما أنَّ رجلاً
مِن بني عبس يُقَال له قِرْوَاش بن هنى كان يُبَارِي حمْلَ بن بَدْر أخا حذيفة في داحس
والغبراء، فَقَال حَمَلَ: الغبراءُ أجود، وقَال قرواش: داحس أجود، فتَرَاهنا عليهما
عشرا في عشر، فأتى قِرْوَاش قيسَ بن زهير فأخبره، فَقَال له قيس: راهنْ مَنْ أحببت
وجَنَّبْني بني بدر؛ فإنهم يظلمون لقدرتهم على الناس في أنفسهم، وأنا نَكِد أباء، فَقَال
قِرْوَاشِ: إني قد أوجَبْتُ الرهان، فَقَال قيس: ويْلَكَ! ما أردتُ إلّا أشأم أهل بيت،
والله لتشعلنّ علينا شراً، ثم إنّ قيساً أتَى حَمَلَ بن بدر فَقَال: إنّي قد أتيتك
لأواضِعَكَ الرهان عن صاحبي، فَقَال: لا أواضعكَ أو تجئ بالعَشْر، فإنْ أخذتَها أخذتُ
سَبَقِي، وإنْ تركتَها رَدَدْتُ حقاً قدْ عرفتَه لي وعرفتُه لنفسي، فأحْفَظَ قيساً،
فَقَال: هي عشرون، قَال حَمَلَ: هي ثلاثون، فتلاجَّا وتَزايَدَا حتّى بلغ به قيسٌ مائةً
ووضع السبق على يدي غلاق، أو ابن غلاق أحد بني ثعلبة ابن سعد، ثم قَال قيس: وأُخَيِّرك
بين ثلاث فإن بدأت فاخترتَ فلي منه خصلتان، قَال حمَل: فابدأ، قَال قيس: فإنّ الغاية
مائة غَلْوة وإليك المِضْمَار ومنتهى الميطان - أي حيث يوطن الخيل للسبق - قَال: فَخَرَّ
لهم رجل من محارب فَقَال: وقع البأس بين ابنى بَغِيض، فضمروها أربعين ليلة، ثم استقبل
الذي ذَرَعَ الغاية بينهما من ذات الإصَاد، وهي ردهة وَسَطَ هَضْب القَليب، فانتهى
الذرع إلى مكان ليس له اسم، فقادوا الفرسين إلى الغاية وقد عطَّشوهما وجعلوا
السابق الذي يرِد ذاتَ الإصاد وهى مَلأى من الماء، ولم يكن ثمَّ قصبة ولا غيرها، ووضع
حمَل حَيْساً في دِلاء وجعله في شعب من شِعَاب هَضْب
القَلِيب على طريق الفرسين، فسمى ذلك الشعب لهذا (شعب الحَيْسِ)، وكمِن معه فتيان فيهم
رجل يُقَال له زهير بن عبد عمرو، وأمرهم إنْ جاء داحس سابقاً أنْ يردُّوا وَجْهه عن
الغاية، وأرسلوهما من منتهى الذرع، فلمّا طلعَا قَال حَمَل: سَبَقْتُكَ يا قيس، فَقَال
قيس: بعد اطِّلاع إيناسٌ فذهبت مَثَلاً، ثم أجدَّا فَقَال حمَل: سبقتك يا قيس، فَقَال: رويداً يَعدون الجَدد، أي يتعدينه إلى الوَعث والخَبَار،
فذهب مَثَلاً، فلمّا دنَوْا وقد برز داحس قَال قيس: جَرْيُ
المُذْكِيات غِلاب، ويقَال "غِلاء" كما يتغالى بالنبل، فذهبت
مَثَلاً، فلما دنا من الفتية وثب زهير فلَطَمَ وَجْه داحس فردَّه عن الغاية، ففي ذلك
يقول قيس ابن زهير:
كَمَا لَاقَيْت مِنْ حَمَلِ بْنِ بَدْرِ
… وإخْوَتِهِ عَلَى ذاتِ الإصَادِ
هُمُ فَخَرُوا عَلَى بَغَيْرِ فَخْرٍ …
وَرَدُّوا دُونَ غَايَتِهِ جَوَادِى
فَقَال قيس: يا حذيفة: أعْطُوني سَبقِي،
قَال حذيفة خدعتك، فَقَال قيس: تَرَكَ الخِدَاعَ مَنْ
أجْرَى مِن مِائِةٍ، فذهبت مَثَلاً، فَقَال الذي وضعا السَّبْقَ
على يديه لحذيفة: إنّ قيساً قد سَبَق، وإنّما
أردْتُ أنْ يُقَال: سَبَق حذيقة، وقد قيل، أفأدفع إليه سبقه؟ قَال نعم، فدفع إليه الثعلبي
السبْق، ثمّ إنّ عركى بن عميرة وابن عَمٍّ له من فَزارة نَدَّمَا حُذَيفة وقَالا: قد
رأى الناس سبْقَ جوادك، وليس كل الناس رأى أن جَوَادهم لُطم، فَدَفْعُكَ السبْقَ تحقيقٌ
لدعواهم، فاسلُبْهُمْ السبْق فإنّه أقصر باعا وأكلُّ حَدَّا من أن يردك،
قَال لهما: ويلكما أراجع فيهما مُتندِّماً
على ما فَرَطَ؟ عَجْزٌ والله، فما زالا
به حتى ندم فنَهَى حميصة بن عمرو حذيفة
وقَال له: إن قيساً لم يسبقْك إلى مَكْرُمة بنفسه، وإنما سبَقَتْ دابةٌ دابةً فما في
هذا حتّى تُدعَى في العرب
ظلوماً؟ قَال: أمَّا إذا تكلمت فلا بدَّ
من أخذِه، ثم بعث حذيفة ابنه أبا قرفة إلى قيس يطلب السبْق، فلم يصادفه، فَقَالت له
امرأته، هر بنت كعب: ما أحبَّ أنّك صادفت قيساً، فرجع أبو قرفة إلى أبيه فأخبره بما
قَالت، فَقَال: والله لتعودَنَّ إليه، ورجَع قيس فأخبرتْه امرأته الخبر فأخذتْ قَيساً
زفراتٌ، فأقبل متقلّباً ولم ينشَبْ أبو قرفة أنْ رجع إلى قيس فَقَال: يقول أبي: أعطِنِي
سَبْقي، فتناول قيس الرمح فطعنه فدق صُلبه، ورجعت فرسه عائرة، فاجتمع الناس، فاحتملوا
دية أبي قرفة مائة عُشَراء، فقبضها حًذيفة وسَكن الناس، فأنزلها على النفرة حتى نتجها
ما في بطونها.
ثم إنّ مالك بن زهير نزل اللقاطة - وهي
قريب من الحاجر - وكان نكح من بني فَزَارَة امرَأة فأتاها فبنى بها وأخبره حذيفة بمكانه،
فعدَا عليه فقتله وفي ذلك يقول عنترة:
لله عَيْنَا مَنْ رَأى مِثْلَ مالك … عَقِيرَةَ
قَوْمٍ أن جَرَى فَرَسَانِ
فَلْيَتهُمَا لم يَجْرِ يَا نِصْفَ غَلْوَةٍ
… وليتهما لم يُرْسَلَا لِرِهَانِ
فأتت بنو جذيمة حذيفة: فَقَالت بنو مالك
بن زهير لمالك بن حذيفة: رُدُّوا علينا مالنا، فأشار سنان ابن أبي حارثة المّرىّ على
حذيفةَ أنْ لا يرُدّ أولادها معها، وأنْ يرد المائة بأعيانها، فقال حذيفة: أرَدُّ الإبل
بأعيانها ولا أردُّ النَّسلَ، فأبَوا أنْ يقبلوا ذلك، فَقَال قيس بن زهير:
يَوَدُّ سِنَان لو يُحارب قَوْمَنَا … وفي
الحربِ تَفْرِيقَ الجَمَاعةِ وَالأزْلُ
يَدُبُّ وَلا يَخْفَى ليُفْسِدَ بَيْنَنَا
… دَبِيباً كما دَبَّتْ إلى جُحرِها النَّمْلُ
فيا ابنَيْ بَغِيضٍ رَاجعَا السَّلْمَ تَسْلَمَا
… ولا تشْمِتَا الأعداء يَفْتَرقَ الشَّمْلُ
وإن سبيلَ الحربِ وَعْرُ مُضِلَّةٌ … وإن
سبيل السِّلْم آمنةٌ سَهْلُ
قَال: والربيع بن زياد يومئذ مجاورُ بني
فزَارة عند امرأته، وكان مُشَاحناً لقيس في درعه ذي النور كان الربيع لَبِسَها فَقَال:
ما أجودَهَا، أنا أحقَ بها منك، وغَلَبه عليها، فأطرَدَ قيس لَبُوناً لبني زياد، فعارض
بها عبد الله بن جدعان التَّيمي بسِلاح، وفي ذلك يقول قيس بن زهير:
لَمْ يأتِيك وَالأنباءُ تَنْمِي … بِمَا
لَاقتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ
وَمَحْبِسُهَا لَدَى القُرْشِيِّ تُشْرَى
… بأفْراسٍ وَأسْيَافٍ حِدَادِ
فلما قتلوا مالك بن زهير تَوَاحَوْا بينهم،
فَقَالوا: ما فعل حماركم؟ قَالوا: صدناه، قَال الربيع: ما هذا الوحى؟ إن هذا الأمر
ما أدرى ما هو، قَالوا: قتلنا مالك بن زهير قَال: بئسما فعلتُم بقومكم، قبلتم الدية
ورضيتُم، ثمَّ عَدَوْتُم على ابن عمكم وصهركم وجاركم فقتلتموه وغدرتم، قَالوا: لولا
أنّك جارٌ لقتلناك، وكانت خفرة الجار ثلاثاً، فقالوا: لك ثلاثة أيام.
فخرج وأتبعوه فلم يدركوه حتى لحقَ بقومه،
وأتاه قيس بن زهير، فصالحه ونزل معه، ثم دسَّ أمةً له يُقَال لها رعية إلى الربيع تنظر
ما يعمل، فدخلت بين الكفاء والقصد لتنظر أمحارب هو أم مسالم، فأتته امرأته تعرض له
وهي على طُهْر فَزَجَرَها وفي نسخة "فدحرها" والمعنى واحد وقَال لجاريته:
اسقِينِي، فلمّا شرب أنشأ يقول:
مُنِعَ الرُّقَادَ فَمَا أُغَمِّضُ حَارِي
… جَلَلٌ مِنَ النَّبَأِ المُهِمّ السَّارِى
مَنْ كَانَ مَحْزُوْنَاً بمَقْتَلِ مَالِكٍ
… فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ
… يَلْطُمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسْحَارِ
أفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بنِ زهير …
تَرجُو النِّسَاء عَوَاقِبَ الأطْهِارِ
فأتت رعية قيساً فأخبرته خبر الربيع، فَقَال:
أنت حرة، فأعتقها، وقَال وثقت بأبي منصور، وقَال قيس:
فإنْ تَكُ حَرْبُكَمْ أمْسَتْ عَوَانَاً
… فإنِّي لَمْ أكُنْ مِمَّنْ جَنَاهَا
وَلكنْ وُلْدُ سَوْدَةَ أرَّثُوهَا … وَحَشُّوا
نَارَهَا لِمَنْ اصطَلَاهَا
فإنِّي غَيْرُ خَاذِلِكُمْ. ولكِنْ … سَأسْعَى
الآنَ إذْ بَلَغَتْ مَدَاهَا
ثم قاد بني عبس وحُلفاؤهم بني عبد الله
بن غَطَفان يوم ذي المريقب إلى بني فزَارة ورئيسهم إذ ذاك حُذِيفة بن بَدْر، فالتقوا؛
فقتل أرطاة أحد بني مخزوم من بني عبس عوف بن بدر، وقتل عنترة ضمضماً ونَفَراً ممن لا
يعرف اسمهم، وفي ذلك يقول:
وَلَقَدْ خَشِيتُ بأنْ أمُوتَ وَلَمْ تَكُنْ
… لِلحَرْبِ دَائِرَةٌ على ابْنِي ضَمْضَمِ
الشَّاتِمَى عِرْضِي وَلَمْ أشتمهما … وَالنَّاذِرَينْ
إذا لَمَ القَهُمَا دَمِي
إن يَفْعَلَا فَلَقَدْ تَرْكْتُ أبَاهُمَا
… جَزْرَ السِّبَاعِ وَكُلِّ نَسْرٍ قَشْعَمِ
وقَال:
ولَقَدْ عَلِمْتُ إذا التَقَتْ فُرْسَانُنَا
… بِلِوَى المُريقِبِ أنَّ ظَنَّك أحمقُ
(مجمع الأمثال).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
عزيزي الزائر:
أهلاً وسهلاً بك اكتب ملاحظاتك أو سؤالك أو راسلنا على صفحة النحو والصرف:
https://www.facebook.com/arabicgrammar1255/